“العاشق الذي ابتلعته الرواية”

4٬270
الشعب نيوز:-

لأسيد الحوتري:
تماثلات الواقع من خلال الأسطورة
رؤية: منذر كامل اللالا

في رواية “العاشق الذي ابتلعته الرواية”، يقدم أسيد الحوتري عملاً سرديًا يجمع بين الأسطورة والواقع، ليخلق نصًا أدبيًا يعكس تجربة الإنسان الفلسطيني بكلّ أبعادها التاريخية والثقافية والسياسية. العنوان نفسه، “العاشق الذي ابتلعته الرواية”، ليس مجرد إشارة إلى الحبّ العاطفي، بل هو رمز لعشق أعمق وأكثر تعقيدًا: عشق الأرض والوطن. العاشق هنا ليس شخصية عادية، بل هو تجسيد للصمود والمقاومة في مواجهة الظلم والاحتلال، مما يجعله رمزًا حيًا للنضال الفلسطيني المتواصل حتى نيل الحرية.
الأسطورة كمرآة للواقع: من بعل الكنعاني إلى ظريف الطول
تستند الرواية إلى أسطورة الإله الكنعاني بعل، الذي يواجه طغيان الإله “يم” (إله البحر)، كرمز لصراع الفلسطيني مع الاحتلال. فـ”يم”، الذي يغرق السفن ويجوِّع الناسَ بإغراق المحاصيل، يُعاد إنتاجه في الرواية عبر قوى الاستعمار البريطاني والصهيوني التي تسلب الأرض وتجوِّع أهلها. لكن الحوتري لا يكتفي بإسقاط الأسطورة على الواقع، بل يخلق تماثلًا بنيويًا بين الشخصيتين الأسطورية والواقعية:
(بعل)، الإله المتمرد الذي يرفض تسليم سلطته لـ”يم”، يُعاد تشكيله في شخصية (ظريف الطول)، الطفل الذي يصنع أسلحته من طين الأرض وأغصان الأشجار (ص42)، ثم يتحوّل إلى مقاوِمٍ حقيقي يواجه العصابات الصهيونية بعد قرار بلفور 1917.

صمت الآلهة في الأسطورة عن إنصاف بعل يُعاد إنتاجه في “صمت المجتمع الدولي”، ممثلًا في قرار مجلس الأمن رقم 243 (1967)، الذي يدعو لانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلّة دون تنفيذ، كـ”آلهة عاجزة” تكرِّس الظلم بدل إنهائه.
هذا التشابك بين الأسطورة والواقع لا يخدم الرواية فنياً فحسب، بل يؤكّد أنّ “الهوية الفلسطينية متجذِّرة في تاريخ أقدم من الاحتلال”، حيث تُحيل شخصية ظريف الطول إلى “طرزان الفلسطيني” (ص49)، بطلٌ برّيٌ ينتمي إلى الأرض كما ينتمي بعل إلى جبال الكنعانيين.

المقاومة بين الأسطورة والواقع: البندقية كرمز للخلاص
لا تكتفي الرواية بربط الماضي بالحاضر، بل تُعيد تعريف المقاومة كفعلٍ وجودي يتجاوز السياسي إلى الثقافي. فـ”الرباع المقدس” (البندقية، الأرض، ظريف، براق) يُجسد هذا التمازج:
“البندقية”، التي يقول عنها ظريف: “لم تُخلق أكتاف الرجال إلا لتُعلَّق عليها البنادق” (ص49)، تتحوّل من أداة حرب إلى رمز للشرعية التاريخية، مثل سيوف الأساطير.
“الأرض”، التي يُولد فيها ظريف ويحيا منها، تُصبح جسدًا يُدافع عنه، تمامًا كما دافع بعل عن ملكه من “يم”.
“براق”، الفرس الأسطورية الخارجة من عين الماء، رفيق درب ظريف وحلقة الوصل حتى في غيابه داخل غياهب السجن، تمتلك شجاعة فارسها وتحاوره بكل ذكاء وفطنة. تُشبه الصراع مع الاحتلال بـ “تناطح العجول البرية” (ص48)، لتخلق حكاية جديدة تُعاد إنتاجها في مسيرة الحرية ولتؤكد ضراوة الحرب.
القرارات الدولية: من 181 إلى 243… أساطير العجز!
عندما يتساءل بعل: *”أتعجز 243 إلهًا عن وقف طغيان يم؟!”، تُوجِّه الرواية سهامها إلى (قرار مجلس الأمن رقم 243)، الذي يُذكِّر بعدد الآلهة العاجزة في الأسطورة. لكن القرار الأكثر إيلامًا في السياق الفلسطيني هو (القرار 181) (1947)، الذي قسَّم فلسطين وأسس لنكبة شعبٍ لم يُستشَر. في الرواية، يُعاد إنتاج هذا القرار عبر رمزية “السجين 181” – ظريف الطول الذي يُبتلع في زنزانة تحمل هذا الرقم، ليصبح مجرد رقم في سجل النسيان الدولي. فالقرار 181، مثل القرار 243، يمثل “وعودًا دوليةً فارغة”، تحوِّل الصراع إلى حلقة مفرغة حيث تنتصر القوة العسكرية (يم/الاحتلال) على الشرعية الدولية (الآلهة/القرارات).

هذا التناص الساخر يكشف أن “الأسطورة ليست هروبًا من الواقع، بل وسيلة لفك شفرته”. فكما انتصر بعل في النهاية (رغم صمت الآلهة)، تلمح الرواية إلى أن انتصار الفلسطينيين سيأتي عبر المقاومة، حتى لو استغرق آلاف السنين.

عنات و”السجين 181″: المقاومة الأنثوية وإعادة الولادة
عندما يغدر “موت” (إله الجحيم) ببعل ويبتلعه، تبرز (عنات)، زوجة بعل، لتحمل راية المقاومة. ترفض عنات الاستسلام للواقع المرير، وتقرر مواجهة “موت” بسيفها، فتشقه نصفين وتحرر روح بعل ليبعث من جديد كـ”طائر العنقاء الفلسطيني”. هذه الأسطورة تُعاد إنتاجها في واقع ظريف الطول، الذي يُسجن تحت رقم “181”، لكن طيف عنات يلازمه في زنزانته، مُذكِّرًا إياه بأنّ “المقاومة لا تموت”. فـ”السجين 181″ ليس مجرد رقم، بل هو رمزٌ للقضية الفلسطينية التي تُسجن في زنازين القرارات الدولية، لكنهّا تظلّ حيّةً عبر الأجيال.
فالقرارات الدولية (181 و243) تظلّ حبرًا على ورق ما دامت تُعامِل القضية الفلسطينية كرقمٍ في سجل النسيان. لكن الرواية تقول لنا: إنّ الأرقام تُهزم حين تتحوّل إلى أساطير، والأساطير تنتصر حين تُروى بأصابع مُلوَّثة بتراب الأرض.
في ظلمة السجن، يتسلّل نور الشمس مع غناء السنونو ليُذكِّر ظريفًا بـ”روح الروح” و لقاء الحب الذي يُشهره سلاحًا أخيرًا في وجه اليأس: “عناتي يا عناتي، لا تمكثي في العالم العلوي أكثر، فما عُدتُ على السجان أقدِر” (ص125). الحبّ هنا ليس عاطفةً فحسب، بل مقاومةٌ ضدّ “موت” يهدّد بابتلاع الأرض والإنسان.
من الأسطورة إلى الزنزانة… سردية البقاء
لا تروي “العاشق الذي ابتلعته الرواية” حكاية فلسطين فحسب، بل تُعيد كتابة أسطورتها. فـ”العاشق” الذي ابتلعته الرواية هو كلّ فلسطيني يرفض أن يُبتلع بالاحتلال، وكلّ بطش “يم” يُعاد إنتاجه في واقعنا. لكنّ الرواية تذهب أبعد من ذلك: إنهّا تُذكِّرنا أنّ الأساطير لا تموت، بل تتناسخ بأشكال جديدة. فظريف الطول ليس مجرّد مقاوِم، بل هو بعلٌ معاصر، وحكايته جزء من سردية أكبر – سردية الشعب الذي يخلق من طين الأرض أسلحة، ومن الأسطورة أملًا.

قد يعجبك ايضا