رِحْلَةُ بَنَاتٍ عَلَى إِيقَاعٍ رَاقِص تَأَمُّلَاتٌ صَبَاحِيَّةٌ فِي يَوْمٍ صَيْفِيّ.. سعيد ذياب سليم

الشعب نيوز:-

 

صَحَوْتُ فِي الوَقْتِ الَّذِي كُنَّا نُسَمِّيهِ فِي المَدْرَسَةِ “الفُرْصَة”، وَقْتِ الِاسْتِرَاحَةِ القَصِيرَةِ بَعْدَ الحِصَّةِ الثَّالِثَةِ فِي نَهَارٍ مَدْرَسِيٍّ طَوِيلٍ، حِينَ يَسْرَحُ الذِّهْنُ بَعِيدًا قَبْلَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ الجَسَدُ تَمَامًا. كُنْتُ كَمَنْ يَرْتَدُّ بَيْنَ النَّوْمِ وَاليَقَظَةِ، كَمَوْجَةِ بَحْرٍ تُحَاوِلُ التَّسَلُّلَ إِلَى الشَّاطِئِ، فَتَخْذُلُهَا الرِّيحُ، وَتَعُودُ أَدْرَاجَهَا إِلَى أَحْضَانِ المَاءِ.

بَحَثْتُ عَنْ فِنْجَانِ القَهْوَةِ الَّذِي أَعْدَدْتُهُ لَيْلًا عَلَى طَرِيقَةِ المُسْتَبْصِرِينَ، الَّذِينَ يُوقِظُهُم ظَمَأُ الفِكْرَةِ قَبْلَ ظَمَأِ الكَافِيِين، فَلَمْ أَجِدْهُ. لَكِنَّ زَوْجَتِي، بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ دِفْءٍ، نَاوَلَتْنِي فِنْجَانًا آخَرَ مِنْ صُنْعِ يَدَيْهَا، يَعْبَقُ بِرَائِحَةِ البُنِّ، وَيُهْدِينِي شَيْئًا مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالدَّلَالِ.

وَقَفْتُ عِنْدَ نَافِذَةِ المَطْبَخِ أَسْتَنْشِقُ هَوَاءَ الصَّبَاحِ، مُعَلِّقًا:
– يَبْدُو أَنَّ حِدَّةَ الحَرَارَةِ انْكَسَرَتِ اليَوْمَ.
أَجَابَتْنِي وَهِيَ تَمُدُّ يَدَهَا بِالفِنْجَانِ:
– الحَمْدُ لِلَّهِ.

انْتَقَلْنَا بَعْدَهَا إِلَى “سَاحَةِ التِّلْفِزْيُونِ”، أَو “تِي فِي بْلَازَا” كَمَا أُسَمِّيهَا مَازِحًا، حَيْثُ نَجْتَمِعُ لِتَبَادُلِ أَخْبَارِ الصَّبَاحِ، وَنَتَّفِقُ عَلَى مَا نَتَنَاوَلُهُ عَلَى الغَدَاءِ، هُوَ نِقَاشٌ يَوْمِيٌّ يَتَكَرَّرُ كَأَنَّهُ مَشْهَدٌ كُومِيدِيٌّ مَأْسَاوِيٌّ، حَيْثُ لَا تَنْتَهِي الحَيْرَةُ إِلَّا حِينَ يَنْتَصِرُ طَبَقٌ مَا… أَوْ يَنْتَصِرُ الوَقْتُ فَنَطْلُبَ دِلِيفَرِي!

وَنَتَنَاوَلُ مَا بَثَّتْهُ الإِذَاعَةُ بِالصُّدْفَةِ، فِي وَقْتٍ صَارَتْ فِيهِ كُلُّ الإِذَاعَاتِ تُسْمَعُ مِنَ الجُدْرَانِ لَا مِنَ الآذَانِ، لِأَنَّ الهَوَاتِفَ صَارَتْ هِيَ الآذَانَ الجَدِيدَةَ.

بَيْنَ رَشْفَةِ قَهْوَةٍ وَأُخْرَى، بَدَأَتْ زَوْجَتِي الحِكَايَةَ: رَجُلٌ اعْتَدَى عَلَى حَافِلَةٍ فِي وَضَحِ النَّهَارِ، وَهَشَّمَ زُجَاجَ نَوَافِذِهَا، النَّاسُ يُصَوِّرُونَ وَلَا يَتَدَخَّلُونَ، كَأَنَّنَا نَعِيشُ فِي زَمَنٍ تَكُونُ فِيهِ العَدَسَةُ أَسْرَعَ مِنَ الضَّمِيرِ. ثُمَّ انْتَقَلَ الحَدِيثُ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ غَرَائِبِ الأَخْبَارِ: قِيلَ إِنَّ جَيْشَ الِاحْتِلَالِ جَمَعَ حَمِيرَ غَزَّةَ وَشَحَنَهَا إِلَى فَرَنْسَا… لَا نَدْرِي إِنْ كَانَ ذَلِكَ نُكْتَةً أَمْ وَاقِعًا أَغْرَبَ مِنَ الخَيَالِ. وَبَيْنَ سُؤَالٍ وَاسْتِغْرَابٍ، وَصَلْنَا إِلَى الخَبَرِ “الأُمِّ”:

– البَنَاتُ بِدْهِنْ يِطْلَعُوا رِحْلَة.

سَأَلْتُ: مَنْ؟
– بَنَاتُ العِيلَة.

(بَنَاتُ العِيلَةِ – لِمَنْ لَا يَعْرِفُ – مِنْ عُمْرِ السَّنَتَيْنِ حَتَّى السِّتِّينَ، مِنْ صَبَايَا فِي أَوَّلِ إِزْهَارِهِنَّ إِلَى خَالَاتٍ وَعَمَّاتٍ فِي كَامِلِ أَنَاقَتِهِنَّ، البَنَاتُ سُكَّرُ نَبَاتٍ كَمَا تَقُولُ الأَغَانِي).

سَأَلْتُ ضَاحِكًا: وَالخَتَايِرَة؟
– بَنَاتٌ فَقَط.
هنا وَجَدْتُ نَفْسِي عَالِقًا بَيْنَ الضَّحِكِ وَالبُكَاءِ، مُتَسَائِلًا فِي سِرِّي: هَلْ أَصْبَحَ “الخَتَايِرَةُ” خَطِرِينَ؟ وَمَا رَأْيُ جَمْعِيَّاتِ حُقُوقِ الإِنسَانِ وَإِنْصَافِ العَجَائِزِ؟

هَرَبْتُ إِلَى وَاتْسَابِ “عَزَائِي الرَّقْمِيِّ”، لِأَجِدَ سَيْلًا مِنْ رَسَائِلِ الصَّبَاحِ: أَدْعِيَةٍ مُزَرْكَشَةٍ، حَمَائِمَ بَيْضَاءَ، زُهُورٍ مُنَمَّقَةٍ، وَكَأَنَّنَا فِي صَالَةِ أَفْرَاحٍ. لَكِنْ أَكْثَرَ مَا شَدَّنِي، صُورَةٌ لِحَقْلٍ رَبِيعِيٍّ، تَنْتَصِبُ فِيهِ سِيقَانُ الزَّهْرِ كَالأَعْلَامِ، نَحِيلَةٌ وَفَخُورَةٌ كَفُرْسَانٍ يَتَبَارَزُونَ فِي مَعْرَكَةِ الجَمَالِ.

تَأَمَّلْتُهَا وَرَدَّدْتُ رِسَالَةَ الصَّدِيقِ:

“صَبَاحُ الزَّهْرِ المُنْتَصِبِ بِرِقَّةٍ وَجَمَالٍ. “

ماذا تَعني “رِحلة بَنات”؟

تقولُ الشاعرةُ البِريطانيّة نيكيتا جيل، في قصيدةٍ تَنفضُ الغُبارَ عن أُسطورةٍ قديمة، إنَّ فتاةً خَرَجتْ من عِظامِ الفَوضى الأُولى، لم تَكن تَبحثُ عن مُلكٍ، ولا تَنتظرُ نُبوءةً، بل كانت فقط تُريدُ مكانًا تَرقُصُ فيه.

فابتَكرتِ الكون، وأيقَظَتِ الأرضَ بخُطواتِ قَدَمَيْها، وجَعَلتِ النُّجومَ تَتخمّرُ من إيقاعِ حركتِها، ثم لفّت ذِراعَيْها حولَ الشمسِ وهَمَسَتْ له أنْ يَفتحَ عَيْنَيْه.
وهكذا، ببساطةٍ مَجنونة، وُلِدَ العالَم… لأنَّ فتاةً أرادت أنْ تَرقُص.

رُبّما لهذا السّببِ يَبدو العَبَثُ الأُنثَويّ أحيانًا غيرَ مُبَرَّر، لكنّه في الحقيقةِ يَحمِلُ مشروعًا كَونيًّا كامِلًا.

فالنساءُ — أَقْصِدُ البَنات — لا يَحتَجْنَ دومًا إلى خَريطة، يَكفي أنْ يَشْعُرنَ بأنَّ الفضاءَ من حولِهِنّ واسِع، وبأنفُسِهِنَّ خَفيفاتٍ بما يَكفي لِيَرقُصْنَ فيه.

رَدَّدتُ كلماتِ نيكيتا جيل وأنا أَتأمَّلُ القِصّة:

“بالنهاية، ما الذي يَفوقُ قُوّةَ
النّساءِ اللّواتي يَعرِفْنَ كلَّ شيءٍ عن النّيرانِ المُبارَكةِ التي تَنمو في داخِلِهِن؟”

في تلكَ اللحظة، بَدأتُ أَتَفَهَّمُ تمامًا حاجةَ “البَنات” إلى المُغامَرة، واستجابتَهُنَّ العَفَويّةَ لغَريزةِ اللّعبِ والمَرَحِ والتّجديد.

فلا ضَيرَ أنْ تكونَ الرِّحلةُ “بَناتٌ فقط” — فَفيها ما يُشبهُ التَّحالُفَ السِّرّيَّ بين الأُنثى والحُريّة.

يُمكنُ النّظرُ إلى “بَناتِ العيلة” لا كمُجَرّدِ مجموعةٍ من النساء، بل كـ جمعيّةٍ نِسويّةٍ غير مُعلَنة، لا تَقِلُّ أهميّةً عن لِجانِ المرأةِ الرَّسميّة، بل رُبّما تَتفوّقُ عليها نَشاطًا وحَيَويّةً وتَنظيمًا فِطريًّا.

تَبدأُ المُفارقةُ من الاسمِ نفسِه: “بَنات”. الكلمةُ التي تُوحي ببَراءةِ الطُّفولةِ أو صَبا المُراهَقة، تَمتدُّ هنا لتَشمَلَ خالاتٍ وعمّاتٍ في عُمرِ السّتّين، مُتأنِّقاتٍ بِنُضجِ التَّجربة، وصَبايا في العِشرين، مَحمولاتٍ بحَماسَةِ المُغامَرة وبَهجةِ الاكْتِشاف.

في هذا التجمّع، لا فرقَ بينَ صِبغةِ شَعرٍ جديدة، ونَصيحةٍ عن تَرشيدِ الإنفاق — كلُّهُنَّ “بَنات”، بالهُويّةِ والشّغَف.

في لقاءاتهن، تَتحوّلُ الجَلْسةُ إلى صالونٍ ثقافيّ–جَماليٍّ مُتَنقّل: تُناقَشُ فيه آخِرُ صَرَعاتِ الموضة، وتُتبادَلُ وصفاتُ العِنايةِ بالبَشَرة، وتُقارَنُ صِبغاتُ الشَّعرِ كأنّها رُموزُ انتماء.

كما يُعلَنُ عن أماكنَ البَيعِ المُناسِبةِ لدَخلِ الأُسرة، فيتحوّلُ المَجلِسُ إلى مُؤتَمَرٍ اقتصاديٍّ عائليٍّ من نوعٍ خاص.

وخَلفَ الضَّحِكاتِ وتَذوّقِ الحَلويّات، هناك دائمًا عَمليّةٌ نفسيّةٌ خفيّة: تَفريغُ الضَّغطِ اليوميّ، تَبادُلُ الأسرار، التَّعليقُ على أخبارِ العائلة، ونَقدُ “جُمهورِ الأولاد” الغائب، الّذينَ غالبًا ما يُشكّلون مادّةَ تحليلٍ اجتماعيٍّ بين خَيَباتِ الأمس وتَطَلّعاتِ الغد.

في ثقافتِنا، تُثيرُ رُؤيةُ النّساءِ مُجتمِعاتٍ شيئًا من التوجّس، كأنَّ الأُنثى المُجتمِعة مشروعُ مؤامرة.

لكنَّ “بَناتِ العيلة” يَكْسِرْنَ هذا التَّصوّر: يَجتمِعنَ لا لهَدمِ التّقاليد، بل لِتَرميمِ الذّات، ومُمارسةِ نوعٍ من الحُريّةِ الرّمزيّةِ في إطارٍ مألوف، دونَ حاجةٍ لكَسرِ القَواعِد — لأنّهُنَّ ببساطةٍ يَعرِفْنَ كيفَ يُعِدنَ تَشكيلَها من الدّاخل.

وحين تُعلِنُ “بَناتُ العيلة” عن رِحلة، فهي لَيسَت مُجرَّدَ نُزهة؛ بل تَحرُّرٌ رمزيٌّ من الرّتابةِ والجَدولةِ اليوميّة.

ومع ذلك، تَبقَى التّقاليدُ حاضِرةً في كلِّ تَفصيلة:
الطّعامُ يُجهَّزُ وَفقَ وصايا الجَدّات،
اللّباسُ يَخضعُ لِمُعادَلةِ “مُحتَشِمٌ لكنْ أَنيق”،
والموسيقى تَختارُها الأكبرُ سِنًّا — حتّى لوِ اعتَرَضَت “بَناتُ الألفيّة”.

لكن مِقياسَ “الأكبر” هنا لا يُقاسُ بالعُمرِ وَحده، بل بالطَّرَب، والرَّشاقة، ومَلَكةِ الذَّوقِ الرّفيع!

في النّهاية، “بَناتُ العيلة” هُنَّ نَمُوذَجٌ عَفَوِيٌّ لِتَوازُنِ المرأةِ مَعَ إِرْثِها وَحَداثَتِها:

يَجتمِعنَ كأنَّهُنَّ في نادٍ سِرّيّ، تُمارِسُ فيه الأُنثى ذَكاءَها العاطفيّ، واستِقلالَها النّاعِم، في عالَمٍ لا يَزالُ مَشغولًا بِتأطيرِ دَوْرِها، بدلًا من الإصغاءِ لحَيويّتِها المُتَجَدِّدَة.
بينَ الطّبيعةِ والأثَر… إلى أينَ تتّجهُ “البَنات”؟

هُنا، تَتجلّى حِكمةُ الأُنثى — أَعني: فَنّ اختِيارِ اتّجاهِ الرِّحلة.

فلا تَتوقّعْ مِنهُنَّ التوجُّهَ إلى موقعٍ أثَريٍّ يَقِفْنَ فيه على أطلالِ الحِقَبِ الغابِرة، يُحدّقْنَ في الحَفائرِ والمَقابِرِ والمَغاوِرِ الّتي اتّخذها الأقدَمونَ مَثوىً لهم.

فهذه الأماكنُ، وإنْ بَدَتْ مُدهِشةً تاريخيًّا، تُذَكّرُهُنّ بالزّمن — وبالكِبَر — ومُرورِ السّنوات، وهذا يَتعارَضُ تمامًا معَ الاتّفاقِ الضّمنيّ بينهُنّ على أنهنّ “بَنات”…
والـ”بَنات” لا يُواجِهْنَ الفَناء، بل يَرقُصْنَ حولَه.

ثم إنَّ الأنشِطةَ التي تَتطلّبُ مَجهودًا بَدنيًّا مُفرِطًا لا تَحظى بأيّ تصويتٍ إيجابيّ:

تَسلُّقُ سَلالِمِ البتراءِ الحَجَريّة؟ السَّيرُ في “السّيق” لِمسافةٍ طويلة؟
امتِطاءُ بَغْلٍ للوُصولِ إلى المَذبح؟

لا، شكرًا.
هذا خارجُ حدودِ المَعقولِ الجَمالي.

وإن كان لا بُدَّ من التّاريخ، فَلْيَكُن تاريخَ الجميلات فقط: زنوبيا، كليوباترا، نفرتيتي —
أمّا العصرُ الحَجَريّ وصِناعاتُهُ البِدائيّة، فلا شأنَ لَهُنّ به، إلا إذا صادَفْنَ سكينًا على شَكلِ قِلادةٍ أنيقة.

الرِّحلة في الصَّيف؟
المعادلةُ بسيطة:

نَبحَثُ عن الماء.
نَغمِسُ أنفُسَنا فيه، “نِبلبِطُ” بِمَرَحٍ كما يَفعلُ الأطفال،

ثم — وَيا لَلدَّهشة — تَستولي “البنات” على الأطواقِ المطّاطيّة، تلك المُخصّصةِ عادةً للصّغار، لِيَتّكئنَ عليها بِخِفّةٍ طُفوليّة، ويَنزلقْنَ فوقَ الماءِ ببُطءٍ وبَهجةٍ ساعةً من الزّمن،

قبلَ أن يَتحلّقْنَ حول “الأراجيل”، ويَدخُلنَ في جلسةِ “بقبقة” جماعيّة… ثَرثَرةٌ ذاتُ نَكهةٍ صَيفيّة.

وبما أنّ لا مَوسمَ يَمرُّ دونَ مُناسبة، لا بُدَّ أن يَظهرَ في الأُفُقِ خَبَرٌ عن عُرسٍ قادِم، فَتَبدأُ وَرشَةٌ عَفويّة لاختِيارِ الأُغنياتِ المُناسِبة، واستِعراضِ أَشهَرِ الرّقصاتِ الإيقاعيّة — وَرُبّما تَطبيقُها نَظريًّا وَسْطَ البِركة!

 

الطّبيعة إذًا؟ نَعم، ولكن…

هل نَذهبُ إلى الطّبيعةِ حقًّا لِنَراها؟
أم فقط لِنَتَصوّرَ معها؟

أمامَ الزَّهْر، لا نَمدُّ أيدينا لِنَلمَسَه، بل نُحرّكُ هواتِفَنا لِلعُثورِ على “الزّاويةِ المِثاليّة”.

وأمامَ الجَبَل، لا نَهمِسُ بِجَلالِه، بل نَصرُخُ لِنُثبِتَ الحُضورَ في خَلفيّةِ السّيلفي الجَماعيّ.

حَتّى في الحُقول، حيثُ يَنتصِبُ الزَّهْرُ بِرِقّةٍ وجَمال، كفُرسانٍ نَبيلة، نَحيلةٍ وفَخورة، لا نَنتَبِهُ إليه إلا حينَ يُجَمَّل بفلتر.

أحيانًا، يَبدو أن علاقتَنا بالطّبيعةِ استِعارةٌ للتواصُلِ مع الذّات — أو مع الجُمهورِ الرّقمي.

فَإلى أين إذًا؟

المَطلوب، بِبساطة:

مزرعةٌ قريبة، فيها بركةُ سِباحة، وبَعضُ الظِّلال، ومَكانٌ يَتّسعُ لِثَرثَرةٍ، وضَحكٍ، وصُوَرٍ جماعيّة.

مَكانٌ لا يُرهِقُ الجسد، ولا يُرهِقُ الذاكرة،
لكنه يُمنِحُ وَهمَ الهُروبِ اللّطيفِ من المدينة…

هل تَعرِفُ مكانًا كَهذا؟
نَنتظرُ اقتراحَك — على ألا يَزيدَ الطريقُ إليهِ عن نِصفِ ساعة،
وأن يُسمَحَ فيه باصطِحابِ “البَطّ المطّاطي” والأنغامِ الراقِصة.

خاتمة:

بَيْنَ الضَّحِكِ وَالتَّأَمُّلِ – ما الَّذي يَتَبَقّى مِنَ الرِّحْلَةِ؟

ما الَّذي يَبقى مِنَ الرِّحْلَةِ بَعْدَ انْقِضاءِ الأيّامِ؟
مَجْمُوعَةٌ مِنَ الذِّكْرَيَاتِ الطَّرِيفَةِ، وَبَقايَا ابْتِسَامَاتٍ، وَصَدَى ضَحِكَاتٍ تُرَدِّدُهَا الصُّوَرُ وَالْقُلُوبُ.
سَمْرَةُ الشَّمْسِ الَّتِي لَمْ نُخَطِّطْ لَهَا، وَآثَارُهَا الَّتِي وَزَّعَتْهَا بِسَخَاءٍ عَلَى الْوُجُوهِ وَالْأَكْتَافِ،
وَمُفَاجَآتٌ لَمْ تَكُنْ فِي الْحُسْبَانِ —
مِثْلَ أَنْ يَنْسَى الْمُكَلَّفُ بِشِرَاءِ لَحْمِ الشِّوَاءِ مُهِمَّتَهُ،
أَوْ أَنْ يَنْسَى أَحَدُهُمْ طِفْلَهُ فِي الْمَزْرَعَةِ، فَلَا يَتَذَكَّرُهُ إِلَّا بِاتِّصَالٍ مِنَ الْحَارِسِ!

صُوَرٌ كَثِيرَةٌ، قَدْ لَا نَعُودُ إِلَيْهَا،
إِلَّا حِينَ يُفَاجِئُنَا أَحَدُ تَطْبِيقَاتِ الْهَاتِفِ بَعْدَ سَنَوَاتٍ،
يُذَكِّرُنَا بِلَقْطَةٍ عَابِرَةٍ، وَيُعِيدُ إِلَيْنَا ضَحْكَةً ظَنَنَّا أَنَّنَا نَسِينَاهَا.

لَقَدْ صَارَتْ عَادَاتُنَا وَمَيُولُنَا الِاسْتِهْلَاكِيَّةُ هِيَ الَّتِي تُحَدِّدُ لَحْظَةَ التَّصْوِيرِ:
يَكْفِي أَنْ يَتَوَقَّفَ اثْنَانِ لِالْتِقَاطِ صُورَةٍ، حَتَّى يَلْتَفَّ الْجَمِيعُ،
وَتُلْتَقَطَ الصُّوَرُ — لَا لِأَنَّ الْمَنْظَرَ فَاتِنٌ،
بَلْ لِأَنَّ الْهَاتِفَ حَاضِرٌ، وَ”اللَّقْطَةَ” أَصْبَحَتْ فَرْضَ عَيْنٍ.

أَمَّا الْحَدِيثُ وَالْمُشَارَكَةُ الْحَقِيقِيَّةُ،
فَكَانَتْ رِحْلَةً أُخْرَى…
رِحْلَةٌ فِي عُيُونِ مَنْ رَافَقُونَا،
وَفِي لَحَظَاتِ السُّكُونِ الَّتِي لَا يُصَوِّرُهَا أَحَدٌ.

رِحْلَةُ “الْبَنَاتِ فَقَطْ”؟
خَذَلَتْهَا الرِّيَاحُ، تَمَامًا كَمَوْجَةٍ حَاوَلَتِ الْوُصُولَ إِلَى الشَّاطِئِ،
لَكِنَّهَا ارْتَدَّتْ إِلَى حِضْنِ الْبَحْرِ.

عَلِمْتُ بِفَشَلِ الْخُطَّةِ فِي الْمَسَاءِ…
وَمَعَ ذَلِكَ، كَانَتِ الطُّقُوسُ الَّتِي سَبَقَتْهَا — رِحْلَةً بِحَدِّ ذَاتِهَا.

فَهَلْ كَانَتِ الرِّحْلَةُ لِلتَّرْفِيهِ؟
أَمْ لِاكْتِشَافِ الذَّاتِ مِنْ خِلَالِ الآخَرِ؟
هَلْ كُنَّا نَهْرُبُ مِنَ الْوَاقِعِ؟
أَمْ نَبْحَثُ عَنْ صُورَةٍ جَدِيدَةٍ لِلْحَيَاةِ؟

فِي النِّهَايَةِ، حَتَّى “الْخَتَايِرَةَ” وَجَدُوا طَرِيقًا لِلْهُرُوبِ… إِلَى الْوَاتْسَاب!

رُبَّمَا كَانَتْ أَجْمَلُ الرِّحَلَاتِ تِلْكَ الَّتِي لَا تُخَطَّطُ بِدِقَّةٍ،
بَلْ تَنْبُتُ فِي عَفْوِيَّةِ الضَّحِكِ،
وَتَتَفَتَّحُ فِي لَحْظَةِ مُشَارَكَةٍ صَادِقَةٍ.

فَأَحْيَانًا،
تَكُونُ الرِّحْلَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِي عُيُونِ مَنْ نُرَافِقُ…
لَا فِي الأَمَاكِنِ الَّتِي نَزُورُهَا.

سعيد ذياب سليم

قد يعجبك ايضا