
الأردن: جوهرة السياحة العلاجية في المنطقة … هل استعدنا بريقها؟
الشعب نيوز:-
بقلم الدكتور محمد حسن الطراونة، عضو مجلس نقابة الأطباء الأردنية
لطالما عُرف الأردن، على مدار عقود طويلة، بكونه منارةً للعلم والتميز في المجال الطبي. لقد حبا الله المملكة بكوادر طبية مؤهلة تأهيلاً عالياً، وبمنشآت طبية متطورة، مما أسهم في استقطاب المرضى من جميع أنحاء المنطقة والعالم، وجعله قبلة إقليمية للسياحة العلاجية والاستشفائية. فمن منا لا يذكر تصدُّر الأردن للمرتبة الأولى إقليمياً، ودخوله قائمة أفضل عشر دول عالمياً في السياحة العلاجية عام 2009؟ حينها، تجاوزت عائدات هذا القطاع الحيوي المليار دولار، واستقبلت مستشفياتنا ما يزيد عن ربع مليون مريض سنوياً، يرافقهم ما يقارب ثلاثمائة ألف مرافق.
إن مكانة الأردن كوجهة مرموقة للسياحة العلاجية لا تقتصر على العلاج الطبي التقليدي فحسب، بل تمتد لتشمل الاستشفاء بفضل مقومات طبيعية فريدة. فمياهنا المعدنية الغنية، وطيننا البركاني الشافي، ومناخنا المعتدل، كلها عوامل تجعل من الأردن ملاذاً مثالياً للباحثين عن الشفاء والاسترخاء. يضاف إلى ذلك، البنية التحتية الطبية المتطورة، وعدد كبير من المستشفيات الخاصة المجهزة بأحدث التقنيات، إلى جانب نخبة من الأطباء الأكفاء في مختلف التخصصات الدقيقة، مما عزز مكانة الأردن كمركز جذب للسياحة العلاجية والاستشفائية من كافة أصقاع المعمورة.
لكن، وفي السنوات الأخيرة، شهدنا تراجعاً ملحوظاً في أعداد المرضى الوافدين لتلقي العلاج في المملكة. وقد تضافرت عدة أسباب وراء هذا التراجع، أبرزها تداعيات ما عُرف بـ”الربيع العربي” على الدول المحيطة، والظروف الإقليمية الضاغطة، بالإضافة إلى ضعف الاهتمام والتنسيق الرسمي بملف السياحة العلاجية، وتعدد المرجعيات وعدم إعطاء هذا القطاع الحيوي حقه من الأهمية من قبل الحكومات المتعاقبة. كما لعبت الحروب التي اجتاحت المنطقة دوراً في ذلك، فضلاً عن وضع شروط مسبقة على مواطني بعض الدول للحصول على التأشيرات لدخول المملكة، بسبب تخوفات أمنية مشروعة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل برزت أسواق منافسة قوية كتركيا والهند، التي تبنت نظام “الحزم” أو “البكجات” للمرضى. هذا النظام يقدم عروضاً شاملة تتضمن تكلفة العلاج، والإقامة الدائمة للمريض ومرافقيه طوال فترة العلاج، بالإضافة إلى توفير أنشطة ترفيهية وتسويقية لهم، مما جعلها وجهات أكثر جاذبية للبعض.
إن استعادة الأردن لمكانته الريادية في قطاع السياحة العلاجية ليس ترفاً، بل هو ضرورة اقتصادية ووطنية ملحة. لتحقيق ذلك، أقترح مجموعة من الحلول الاستراتيجية التي تتطلب تضافر الجهود وتوحيد الرؤى:
1-تفعيل الدبلوماسية الأردنية: يجب رفد سفاراتنا وقنصلياتنا بملحقين متخصصين يتولون مهمة الترويج للقطاع العلاجي والاستشفائي في دول العالم كافة، والاستفادة من شبكة علاقاتنا الدولية الواسعة.
2-الترويج الإعلامي الفعّال: علينا استغلال المؤتمرات الطبية الدولية التي تستضيفها الأردن، والتي يتجاوز عددها أحياناً المائة مؤتمر سنوياً، لربطها بهيئة تنشيط السياحة. الهدف هو الترويج لبرامج السياحة على هامش هذه المؤتمرات والمعارض الطبية الدولية، مع إشراك كافة القطاعات الصحية: شركات الأدوية، المستشفيات، المختبرات، مراكز العلاج الطبيعي، وجمعية المستشفيات الخاصة، وجمعية الفنادق الأردنية، والنقابات الصحية.
3-تطوير السياسات الرقابية: لا بد من تطوير السياسات المتعلقة بالشكاوى بعد دخول المريض إلى المملكة، وتفعيل قانون المساعدة الطبية، والرقابة الحقيقية والفعالة على أداء المؤسسات الصحية بشكل عام لضمان أعلى معايير الجودة والسلامة.
4-تسهيل الإجراءات: يجب تبسيط إجراءات الحصول على التأشيرة والفيزا، وتسهيل الدخول عبر المعابر الحدودية والمطارات، والاستفادة من العروض التي تقدمها شركات الطيران العربية والدولية لجذب المزيد من المرضى.
5-التحول الرقمي الشامل: يتوجب علينا إنشاء قاعدة بيانات وطنية شاملة، وحوسبة النظام الصحي بالكامل، بما يتيح تسجيل كافة الأشخاص الذين تلقوا العلاج في المملكة. هذا سيمكن الحكومة والجهات ذات العلاقة من إحصاء أعداد متلقي العلاج بشكل دقيق، أسوة بالدول المتقدمة. كما يجب استغلال أحدث وسائل التكنولوجيا المتاحة للترويج للأردن، والتوسع في برامج اعتماد التأمين الصحي الدولي من خلال توقيع اتفاقيات وشراكات مع الجهات الدولية ذات العلاقة. ولتحقيق ذلك، يجب تنظيم زيارات حكومية للدول المستهدفة، وإنشاء منصة دولية تتيح لكل من يرغب في العلاج بالاطلاع على كافة التفاصيل المتعلقة بالعلاج والسفر، والاستفادة من خدمات المستشفى الافتراضي الذي أطلقته وزارة الصحة في تقديم استشارات طبية بخصوص العلاج في الأردن.
6-توحيد المرجعيات: من الضروري توحيد المرجعيات الرسمية والوطنية المشرفة على السياحة العلاجية، وأن يكون القائمون عليها من أصحاب الخبرة والاختصاص، وخصوصاً من القطاع الخاص، إيماناً بأن السياحة العلاجية هي رافد أساسي للاقتصاد الصحي والوطني الأردني.
إن استعادة الأردن لبريقه في السياحة العلاجية ليست مجرد حلم، بل هي هدف يمكن تحقيقه بفضل الإرادة والعزيمة والعمل المشترك. إنها فرصة تاريخية لإعادة تموضع المملكة على الخارطة العالمية كمركز ريادي للاستشفاء والعلاج.