ما بين الضجيج والموقف… الأردن يختار الفعل نضال الزبيدي

الشعب نيوز:-

في زمن تتماهى فيه التصريحات، ويتسابق البعض إلى فضاءات التفاهة كي يقولوا ما لا يُقال، يبقى للأردن موقعه الذي لا يعلو بالصوت، بل يرتفع بالفعل ،فوسط حمّى الدم والنار والمجاعة المفروضة على غزة، تكثر الأسئلة وتعلو النبرات: أين العرب؟ ولماذا لا تتحرك الجيوش؟ ثم، كما هي العادة، يُقال ما يُقال عن الأردن.
بين من يتهمه بالصمت، ومن يغمز بالتخاذل، ومن يتجرأ حد التخوين، تمضي المملكة في طريقها… لا ترد الصاع بالصاع، بل ترد الشك بالإنزال الجوي، وترد الشتائم بالشاحنة المحمّلة بالغذاء، وترد الإساءة بابتسامة نشمي يدفع بعربة طحين عبر ركام غزة.
فهل نحن أسرى انفعالنا؟ أم أسرى رواية سطحية تتجاهل السياق والتاريخ؟ وهل يُقاس الموقف بحجم الضجيج أم بوزن الفعل؟
الأردن، لمن يعرف تاريخه ويقرأ جغرافيته، لم يكن يومًا بلا موقف ،فصوته خافت أحيانًا، لكنه حين يرتفع لا يُخطئ الاتجاه. منذ اليوم الأول للعدوان، لم ينتظر أحدًا ، خرج الملك عبد الله الثاني يخاطب العالم بلغة الوضوح، بلا مواربة ولا تردد: أوقفوا الحرب، افتحوا المعابر، لا تتركوا غزة وحدها.
لم تكن الكلمات فقط، بل الأفعال. قوافل، شاحنات، إنزالات جوية، مستشفيات، خبز، أدوية، وحتى عيادة للأطراف الصناعية في زمن تقطع فيه السياسة ما لا تقدر الحرب على بتره.
لكن، وكما قال غاندي يومًا، “في البداية يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، ثم تنتصر”. واليوم، يُحارب موقف الأردن بحملات تشكيك ممنهجة، تُدار من خلف شاشات باردة، بأصابع لا تعرف ألم من ينام على تراب الخوف في غزة، ولا تعب من يحمّل كيس طحين على كتفه ويرسله نحو أطفال مجوعين .
اتهموا الأردن بأخذ المال مقابل تمرير المساعدات، وكأن الذي يحمل هذه التهمة لم يسمع يومًا عن خبز الكرامة، ولا يعرف أن مواقف الدول ليست صفقات، بل عقيدة راسخة، وثقافة عمرها قرن من الالتزام القومي.
ومع كل ذلك، لم ينجرّ الأردن إلى المهاترات، لم يردّ على الصغائر، بل ردّ بالمزيد من الجهد، بالمزيد من الصمت النبيل، الذي لا يطلب تصفيقًا، ولا يسعى لبطولة زائفة.
ومَن يعرف الأردن، يعرف أن صمته ليس صمت الخوف، بل صمت الحكمة. وأنه حين يتحرك، لا يطلب إذنًا من أحد، ولا ينتظر مديحًا من جهة. فمنذ النكبة، والبلد الصغير بحجمه، الكبير بدوره وبقيادته، يحتضن اللاجئين، ويمدّ الجسور، ويقود في الخفاء ما لا يُقال في العلن.
هل يحتاج الأردن إلى من يشهد له؟ يكفي أن تنظر إلى أرقام المساعدات، إلى المستشفيات، إلى المستودعات التي لم تنم منذ أكتوبر 2023. يكفي أن تسأل أهل غزة، لا رواد مواقع التواصل الاجتماعي، عمّن كان معهم في ليلهم الطويل.
أما المزايدون، فلهم ضجيجهم المؤقت، كفقاعات في بحر التاريخ. وأما الأردن، فله ثباته، وله ملك لا يبدّل المبادئ كلما بدّلت الرياح اتجاهها.
في زمن الدم والصمت، هناك من يتكلم كثيرًا ولا يقول شيئًا، وهناك من يفعل كثيرًا ولا يتكلم. والأردن من الفئة الثانية، التي تُكتب مواقفها ولا تُذاع.
نعم، الأردن لا يرفع صوته كثيرًا… لأنه مشغول بفعل ما لا يقدر كثيرون على فعله.

قد يعجبك ايضا