الخطاب الدبلوماسي الأردني: قراءة اجتماعية–فلسفية في خطاب وزير الخارجية أيمن الصفدي. د.زهور غرايبة تكتب

الشعب نيوز:-

يشكّل الخطاب السياسي الأردني، في لحظاته المفصلية، نافذة لفهم كيفية تفاعل دولة صغيرة المساحة محورية التأثير مع بيئتها الإقليمية والدولية، إن خطاب وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، الذي يتكرر في المحافل الدولية والإقليمية، يمثل حالة خاصة من التعبير السياسي الذي يوازن بين ثقل الجغرافيا السياسية والشرعية الرمزية التي اكتسبها الأردن عبر تاريخه، ومن هنا تنبع أهمية تحليل هذا الخطاب من خلال أدوات التحليل الاجتماعي للغة والسياسة، لفهم كيف تتحول الكلمات إلى ممارسة قادرة على إنتاج القوة وإعادة ترتيب العلاقات بين الفاعلين.

فالخطاب الدبلوماسي لا يُختزل في محتواه المعلن، إذ يعمل في إطار أوسع ينتج أنظمة معرفة تحدد ما يمكن قوله وما يتعذر قوله في المجال السياسي. في حالة الصفدي، فإن تكراره لمفردات مثل “الشرعية الدولية”، “السلام العادل”، و”الوصاية الهاشمية” لا يقتصر على وصف مواقف الأردن، وإنما يسهم في صياغة حدود النقاش الدولي، وهو بذلك يرسّخ دور الأردن باعتباره طرفًا يملك شرعية خاصة، تستند إلى موقعه الجغرافي ورصيده المتعلق بالصراع.

اللغة هنا ليست أداة محايدة، وإنما ساحة صراع رمزي على من يمتلك حق تعريف الواقع، فعندما يستخدم الصفدي لغة مشحونة بالقيم الأخلاقية مثل “العدل” و”الشرعية”، فإنه لا يخاطب الحكومات فقط، إنما يوجّه رسائل إلى الرأي العام العربي والدولي أيضًا، وبهذا تتحول اللغة إلى رأسمال رمزي يُستثمر في تعزيز صورة الأردن كفاعل مسؤول ووسيط ضروري في المنطقة، وفي الوقت ذاته يظهر الخطاب كعملية توازن دقيقة بين التعبير عن الاستقلالية السياسية والتأكيد على الحاجة إلى الدعم الدولي، ما يعكس إدراكًا عميقًا لمحدودية القوة المادية وضرورة تحويل الرمزية السياسية إلى أداة ضغط دبلوماسي.

غير أن الخطاب لا يتوجه إلى الخارج وحده، فهو محمّل برسائل موجهة إلى الداخل الأردني كذلك، فعندما يؤكد الصفدي على “الثوابت الأردنية” و”الدور التاريخي”، فإنه يعيد إنتاج حالة من التماسك الوطني تمنح النظام السياسي شرعية داخلية، وفي المقابل، فإن مخاطبة الخارج بمفردات القانون الدولي والشرعية تعكس وعيًا مزدوجًا: خطاب يطمئن الداخل ويحشد الدعم الشعبي، وخطاب آخر يُترجم بلغة دبلوماسية مقبولة لدى الشركاء الدوليين، ومن هنا يصبح الخطاب أداة تواصل تعمل في اتجاهين متوازيين يلتقيان عند هدف واحد هو الحفاظ على مكانة الأردن كفاعل لا يمكن تجاوزه.

وعند قراءة دقيقة للخطاب تتضح مستويات مضمرَة لا تقل أهمية عن الكلمات المباشرة، فالحديث عن “الحل النهائي” أو “السلام العادل” يخفي قلقًا وجوديًا من محاولات إقصاء الأردن عن مستقبل القضية الفلسطينية أو تقليص دوره في إدارة المقدسات في القدس، في هذا السياق يعمل الخطاب كوسيلة لإعادة التأكيد على أن أي تسوية سياسية لا يمكن أن تتجاهل الأردن وإلا فقدت شرعيتها. وهكذا لا يُفهم الخطاب بما يقوله فقط، بل بما يسكت عنه أيضًا، وبما يتركه معلقًا كاحتمال سياسي أو كتحذير مبطّن.

ومع تتبع البنية العامة لهذا الخطاب يتضح أنه يعيد باستمرار صياغة الثنائيات التي يفرضها السياق: سلام في مقابل صراع، شرعية في مقابل فوضى، داخل في مقابل خارج، ومن خلال إعادة ترتيب هذه الثنائيات يسعى الصفدي إلى تثبيت هوية الأردن كدولة وسطية، عقلانية، وحامية للاستقرار، هذا الموقع لا يتأسس على السياسات العملية وحدها، وإنما يُعاد إنتاجه لغويًا عبر الخطاب ذاته، حيث تُبنى صورة الأردن كحاجز ضد الانهيار وممر لا غنى عنه للحلول الإقليمية والدولية.

في المحصلة، يظهر أن خطاب أيمن الصفدي ليس انعكاسًا لمصالح سياسية آنية، بل ممارسة خطابية متكاملة تستثمر في المعرفة والسلطة والرمزية لتثبيت موقع الأردن في النظام الدولي، الخطاب يعمل على مستويات متوازية: إنتاج صورة الأردن كفاعل شرعي ووسيط لا يمكن تجاوزه، تعزيز التماسك الداخلي عبر استدعاء الثوابت الوطنية، وإعادة تعريف حدود النقاش الدولي بما يحفظ الدور الأردني. ومن هنا يمكن القول إن خطاب الصفدي يتجاوز وظيفته التقريرية ليصبح نصًا اجتماعيًا يعيد ترجمة القلق السياسي إلى قوة رمزية، ويؤكد على العلاقة العضوية بين اللغة والسلطة في عالم يتغير بسرعة.

قد يعجبك ايضا