الثقة بالعملية السياسية شارفت على الإغتراب المحامية هبه أبو وردة

الشعب نيوز:-

منذ تولي جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين سلطاته الدستورية، انتهج رؤية إصلاحية شاملة للتحديث السياسي والإجتماعي، مؤكدا على أن الشباب قوة قادرة على دفع التحول الديمقراطي وضمان استدامته، وفي إطار هذه الرؤية، أطلق جلالته ثلاث مسارات متكاملة، سياسية، اقتصادية وإدارية، مع التركيز على المسار السياسي الذي شهد رعاية مباشرة للحوار الوطني وإقامة لجان ملكية متخصصة، توجت بتشكيل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية لتطوير تعديلات دستورية تعزز الإصلاح وتضع أسس قوانين جديدة للانتخاب والأحزاب، مع توجيه صريح لضمان مخرجات تشريعية وسياسية تعزز مشاركة الشباب والمرأة في الحياة العامة.
في هذا السياق، تدخل المشرع الأردني لترجمة الرؤية الملكية إلى نصوص قانونية تنظم الحياة السياسية، في سياق عام يهدف إلى توسيع قاعدة المشاركة وتعزيز العمل الحزبي، فقد تم تعديل قانون الانتخاب وقانون الأحزاب لإعادة هندسة المشهد السياسي، مع تركيز واضح على تمكين الشباب، إذ أصبح بإمكان الفئة العمرية الأصغر خوض الانتخابات، وأُلزم أن تتضمن القوائم الحزبية مرشحاً واحداً على الأقل لا يتجاوز 35 عاماً ضمن أول خمسة مرشحين، كما حُددت حصة تمثيلية للشباب في تأسيس الأحزاب، بحيث لا تقل عن 20% من الأعضاء المؤسسين البالغ عددهم 1000.
كانت التعديلات القانونية نقطة انطلاق صلبة، يُنتظر منها إدماج الشباب فعليا في عملية صنع القرار، وإزالة العوائق العمرية لضمان تمثيل هذه الفئة داخل هياكل الترشح والتأسيس الحزبية، إلا أن واقع التطبيق أظهر فجوة واضحة بين التمكين القانوني والتمكين الفعلي، إذ بقيت النصوص على الورق إجراءات خصبة، دون أن تترافق مع تغييرات عملية في الثقافة السياسية أو الممارسات الحزبية.
التمحيص العميق في الواقع السياسي يكشف تتنوع في الممارسات الحزبية؛ إذ أن بعض الأحزاب تتعامل مع هذه النصوص بامتثال قانوني انتهازي، مستغلة المتطلبات الشكلية للظهور بمظهر الالتزام، دون تبني الروح الحقيقية الرؤية الإصلاحية الملكية أو الاستثمار الفعلي في تمكين الشباب، مكتفية بالانخراط الكمي، مع بقاء القيادات التقليدية المخضرمة من النخبة السياسية القديمة، على مقاعدها، مع تبني خطابات تضج بشعارات “تمكين الشباب” كصيغة تجميلية.
حيث يمكن القول أن بعض الأحزاب الحديثة، وظفت موضوع تمكين الشباب كأداة تكتيكية، وأداة امتثال للمتطلبات القانونية، بينما تحصر مشاركة الشباب في جوانب تنظيمية أو دعائية دون الوصول إلى مراكز القرار الفعلية، حتى أن القيادات من الشباب يصتدمون بهياكل تقليدية جامدة تحد من تأثيرهم في التشريع وصنع السياسة، وقد أشارت الدراسات إلى أن التراتبية الهرمية للحزب ولمجلس الأمة، تميل إلى تهميش الأصوات الشابة، ما يجعل تمثيلهم أقرب إلى إجراء شكلي.
الصورة السياسة العملية العامة، تعكس انحدار بعض الأحزاب نحو مسرح رمزي للشرعية الشكلية، والشباب عليه هم الحاضر الغائب، حاضر في الخطابات، غائب عن مواقع الفعل، والمطلب الإجتماعي والقانوني بيده لافتة حشد، تطمس تمجيد الولاءات التقليدية، وترفع شعار الحداثة السياسية المبنية على تمكين فئات مجتمعية جديدة.
للوهلة الأولى، يجدر الترحيب بهذا التحول الخطابي نحو قيم المواطنة والدمقرطة، وخطوة تتماشى مع بناء دولة القانون والمؤسسات، بيد أن التحليل الأعمق يكشف أن جذور البنية التقليدية ما تزال ممتدة تحت سطح هذا الخطاب المستحدث، وأن الولاءات التقليدية أعادت التموضع داخل الأطر الجديدة، ما يعني أن الذهنية السياسية التقليدية لا تزال فاعلة، وإن تسربلت بخطاب عصري وهذه الحقيقة لن تتبدل بين عشية وضحاها.
استبدل الخطاب المهترئ المباشر بخطاب شبابي جديد، سطحي لم يلمس جوهر الثقافة السياسية القائمة على المحسوبية والولاءات الشخصية، وهذا بحد ذاته يسهم في بروز ظاهرة مقلقة تتعلق بالاستغلال الرمزي لمفهوم “تمكين الشباب”، لتحقيق هدف حزبي بحت، وبذلك تكون الأحزاب التي تنتهج هذا النهج ساعية بوعي لتحويل النصوص التشريعية من أداة تمكين إلى وسيلة تضليل سياسي، ما يعكس ازدواجية واضحة بين الاحترام الشكلي للنص والاستغلال الجوهري له.
وعلى الصعيد السياسي، هذه السياسة الوهمية تعكس توظيف الرموز والشعارات الاجتماعية لخلق وهم المشاركة، وهذا نوع من الشرعية الشكلية، يحاكي بها الحزب مطالب الشارع دون أن تغيّر الواقع السياسي على الأرض، ويذكرنا هذا الانحراف بما وصفه بعض المفكرين السياسيين بالإستعمار الداخلي للوعي السياسي.
الأمر لا يقل خطورة على المستوى الاجتماعي والنفسي؛ حيث أن الأكثر تأثرا بخطاب تمكين الشباب، سواء سلبا أو إيجابا هم الشباب أنفسهم، فمن جهة حملت الوعود والإصلاحات الجديدة بصيص أمل لدى شريحة من الشباب بتغيير المشهد السياسي لصالحهم، سمع هؤلاء عن تخفيض سن الترشح والكوتا الشبابية في القوائم، وشاهدوا مسؤولين وحزبيين يشيدون بدور الجيل الجديد في النهضة الوطنية، هذا المناخ ربما ولد لدى البعض شعورا بأن أبواب المشاركة التي كانت موصدة بدأت تفتح؛ فاندفعوا للاهتمام أو حتى الانخراط في الأحزاب الجديدة إعتقادا منهم بأن صوتهم سيسمع أخيرا، لكنهم أكتشفوا أنهم أمام تسليع المشاركة السياسية.
من هنا يمكن القول أن الزاوية الأكثر ألما حقيقة، هي التمكين الشكلي الذي يصدم الشاب الأردني، حيث يجد أنه بين أمل يلمع كشرارة في سماء مظلمة، وإحباط يغلف الروح كضباب كثيف يثقل أجنحتهم، تماما كأنها واجهة بناية زاهية الألوان تخفي عفن الجدران الداخلية، حيث تستدعى العاطفة الجماهيرية لتجميل المشهد، بينما يبقى صدى الصوت الشبابي هامشا لا يتعدى دور الصدى في واد عميق.
تكشف دراسة هذه الظاهرة أن “تمكين الشباب”، هو اختبار حقيقي لنضج النظام السياسي في استيعاب التغيير والديمقراطية الفعلية، ما يضع مسؤولية حقيقية على الدولة والأحزاب والنخب لضمان أن يصبح التمكين الشبابي أداة فعلية للتغيير، لقطع الوريد الذي يغذي الارتياب لدى الشباب بكل ما يأتي من الطبقة السياسية، حيث أن الواقع الملموس قد عمق خلال العامين الماضيين شعور شريحة واسعة من الشباب بالشك وربما خيبة الأمل، واستطلاعات الرأي تشير بوضوح إلى عزوف الشباب عن الانخراط الحزبي وضعف ثقتهم بجدوى العملية السياسية؛ فالثقة التي شارفت على الإغتراب استعادتها يتطلب جهدا طويل الأمد لبناء مصداقية حقيقية مع الجيل الصاعد.

قد يعجبك ايضا