لِمَاذَا يَبْتَسِمُ لَنَا القَمَرُ؟سعيد ذياب سليم

الشعب نيوز:-

هَلْ سَبَقَ وَأَنْ لَاحَظْتَ أَنَّ فِي القَمَرِ وَجْهاً يَبْتَسِمُ لَكَ وَأَنْتَ تُحَدِّقُ فِيهِ؟ قَدْ لَا تُفْصِحُ لِأَحَدٍ عَنْ ذَلِكَ خَوْفاً مِنْ أَنْ تُتَّهَمَ بِأَنَّكَ شَخْصٌ خَيَالِيٌّ، أَوْ رُبَّمَا تُعَانِي مِنْ “لَوْثَةٍ” عَابِرَةٍ! وَلَا يَتَوَقَّفُ الأَمْرُ عِنْدَ هَذَا الحَدِّ؛ فَرُبَّمَا لَاحَظْتَ فِي التِفَاتَةٍ سَرِيعَةٍ وَأَنْتَ مُنْشَغِلٌ بِأَمْرٍ مَا، أَنَّ قَمِيصَكَ الَّذِي أَلْقَيْتَهُ بِإِهْمَالٍ عَلَى مَقْعَدٍ مُجَاوِرٍ، يَنْظُرُ إِلَيْكَ بِعَيْنَيْنِ غَاضِبَتَيْنِ!
لَا تَفْزَعْ مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّنَا نَمُرُّ بِمِثْلِ هَذِهِ المَوَاقِفِ، وَلَيْسَ لَهَا صِلَةٌ بِعَالَمٍ خَفِيٍّ؛ بَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ نَفْسِيَّةٌ تُعْرَفُ بِـ “البَارِيدُولِيَا” (Pareidolia) أَوْ “الاسْتِسْقَاط البَصَرِيّ”، وَهِيَ قُدْرَةُ الدِّمَاغِ عَلَى نَحْتِ “المَعْنَى” مِنْ قَلْبِ “الفَوْضَى”. كَثِيراً مَا نَسْمَعُ الأَطْفَالَ يَتَضَاحَكُونَ وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَى السَّمَاءِ فِي يَوْمٍ غَائِمٍ، بِأَصَابِعِهِمُ الصَّغِيرَةِ صَارِخِينَ: “هَذَا وَجْهٌ! وَتِلْكَ بَقَرَةٌ!”، وَسُرْعَانَ مَا تَدْفَعُ الرِّيحُ السَّحَابَ لِتُغَيِّرَ التَّشْكِيلَاتِ وَتَرْسُمَ أَشْكَالاً جَدِيدَةً وَكَأَنَّهَا تُدَاعِبُ مُخَيَّلَتَهُمْ.
وَفِي سَلْطَنَةِ عُمانَ، عَلَى الطَّرِيقِ الجَبَلِيِّ المُنْطَلِقِ مِنَ الحَمْرِيَّةِ بِمَسْقَط وُصُولاً إِلَى قَرْيَةِ السِّيفَةِ، وَالمَارِّ بِقُرَى يِتِي وَيَنْكِت وَبَنْدَر الخَيْرَانِ، يُطَالِعُنَا أَحَدُ أَشْهَرِ هَذِهِ الأَمْثِلَةِ. فَعَلَى تِلَالِ “يِتِي”، يُوجَدُ تَكْوِينٌ صَخْرِيٌّ يُشْبِهُ أَسَداً رَابِضاً، كَانَ يُعْرَفُ مَحَلِّيّاً وَسِيَاحِيّاً بِـ “أَبُو الهَوْلِ” تَشْبِيهاً لَهُ بِالتِّمْثَالِ المِصْرِيِّ الشَّهِيرِ. لَقَدْ قَامَتْ عَوَامِلُ التَّعْرِيَةِ مِنْ رِيَاحٍ عَاتِيَةٍ وَأَمْطَارٍ مُنْهَمِرَةٍ بِنَحْتِ تِلْكَ الصُّخُورِ عَبْرَ مَلَايِينِ السِّنِينَ، لِتَتْرُكَ لَنَا مَحْضَ صُدْفَةٍ جِيُولُوجِيَّةٍ، لَكِنَّ عَقْلَنَا رَفَضَ أَنْ يَرَاهَا صُخُوراً صَمَّاءَ، فَمَنَحَهَا الرُّوحَ وَالاسْمَ.
وَقَدْ وَصَفَ الرَّحَّالَةُ عَبْرَ التَّارِيخِ مُشَاهَدَاتٍ مُمَاثِلَةً؛ فَفِي جِبَالِ الأَلْبِ تُوجَدُ “المَرْأَةُ النَّائِمَةُ”، وَفِي جِبَالِ الأَنْدِيزِ بِأَمْرِيكَا الجَنُوبِيَّةِ نَجِدُ “أَنْفَ الشَّيْطَانِ” وَ “وَجْهَ الهِنْدِيِّ”، بَيْنَمَا يَرْتَفِعُ فِي البَرَازِيلِ الجَبَلُ الشَّهِيرُ المُسَمَّى “إِصْبَعَ اللهِ” (Dedo de Deus)، وَلَهُ نَظَائِرُ تَحْمِلُ الاسْمَ نَفْسَهُ فِي السَّعُودِيَّةِ مِثْلَ “إِصْبَعِ جَبَلِ اللَّوْزِ” فِي مِنْطَقَةِ تَبُوكَ، ِوفي سِينَاءَ أَيْضاً عَمُودٌ صَخْرِيٌّ يَحْمِلُ الاسْمَ ذاته، وحَتَّى فِي غَوْرِ الأُرْدُنِّ، يَبْرُزُ تَشْكِيلٌ مِلْحِيٌّ يُعْرَفُ بِـ “زَوْجَةِ لُوطٍ”؛ حَيْثُ تَحَوَّلَ الأَثَرُ الجِيُولُوجِيُّ فِي مُخَيِّلَةِ النَّاسِ إِلَى قِصَّةٍ مُتَجَسِّدَةٍ وَعِبْرَةٍ شَاخِصَةٍ.
وَمِثْلَمَا تَسَبَّبَتْ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ بِمُشَاهَدَةِ الأَشْكَالِ فِي الغُيُومِ، تَسَبَّبَتْ أَيْضاً بِرُؤْيَةِ أَنْمَاطٍ فِي سَمَاءِ اللَّيْلِ؛ فَهَذِهِ النُّجُومُ اللَّامِعَةُ الَّتِي تَرْقُبُنَا مِنْ بَعِيدٍ كَانَتْ وَمَازَالَتْ سِرّاً غَامِضاً فِي ذِهْنِ الإِنْسَانِ، الَّذِي رَأَى فِيهَا مَجْمُوعَاتٍ نَجْمِيَّةً (Constellations) تُشَكِّلُ صُوَرَ حَيَوَانَاتٍ وَأَبْطَالٍ أُسْطُورِيِّينَ. فَهَذَا “الفَرَسُ المُجَنَّحُ” (Pegasus)، وَذَاكَ “الدُّبُّ الأَكْبَرُ” (Ursa Major)، وَتِلْكَ “المَرْأَةُ المُسَلْسَلَةُ” (Andromeda)، وَهُنَاكَ “الجَبَّارُ” (Orion) الَّذِي يَبْدُو فِي مَلْحَمَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَهُوَ يُطَارِدُ “الأَرْنَبَ” (Lepus).
لَقَدْ كَانَتِ البَارِيدُولِيَا الكَوْنِيَّةُ هِيَ البَذْرَةَ الأُولَى الَّتِي اخْتَلَطَ فِيهَا التَّنْجِيمُ بِعِلْمِ الفَلَكِ، حَيْثُ حَاوَلَ الإِنْسَانُ رَسْمَ خَرِيطَةٍ لِمَخَاوِفِهِ وَآمَالِهِ فَوْقَ صَفْحَةِ السَّمَاءِ.
وَلَعَلَّ مَا يُفَسِّرُ هَذَا الِانْدِفَاعَ البَشَرِيَّ هُوَ مَا ذَكَرَهُ العَالِمُ الأَمْرِيكِيُّ كَارِل سَاغَان؛ إِذْ يَرَى أَنَّ أَدْمِغَتَنَا تَطَوَّرَتْ بِيُولُوجِيّاً كَـ “جِهَازٍ رِيَاضِيٍّ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى الأَنْمَاطِ”. كَانَ عَلَى الإِنْسَانِ الأَوَّلِ أَنْ يُحَدِّدَ بِسُرْعَةٍ إِنْ كَانَ مَا يُقَابِلُهُ فِي عَتْمَةِ الغَابَةِ يُشَكِّلُ خَطَراً أَمْ لَا، لِذَا أَصْبَحَ الدِّمَاغُ “حَسَّاساً بِشَكْلٍ مُفْرِطٍ” تِجَاهَ الوُجُوهِ وَالتَّنَاظُرِ. وَلَمْ يَكْتَفِ سَاغَان بِتَفْسِيرِ ذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ، بَلْ طَبَّقَهُ عَلَى الفَضَاءِ؛ فَعِنْدَمَا التَقَطَتْ مَرْكَبَةُ “فَايْكِينْج 1” صُورَةً لِتَلَّةٍ عَلَى سَطْحِ المِرِّيخِ عَامَ 1976 تُشْبِهُ وَجْهاً بَشَرِيّاً عِمْلَاقاً، أَكَّدَ أَنَّهَا مَحْضُ “بَارِيدُولِيَا” كَوْنِيَّةٍ شَكَّلَتْهَا زَوَايَا الضَّوْءِ وَالظِّلَالِ وَهَذَا مَا أَثْبَتَتْهُ الصُّوَرُ الحَدِيثَةُ وَالأَكْثَرُ دِقَّةً لِسَطْحِ المِرِّيخِ، وَالَّتِي كَشَفَتْ عَنْ مُجَرَّدِ تَكْوِينٍ صَخْرِيٍّ طَبِيعِيٍّ لَا مَلَامِحَ فِيهِ، مِمَّا يَقْطَعُ الشَّكَّ بِاليَقِينِ بِأَنَّ الوَجْهَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي عَيْنِ الرَّائِي.
إِنَّ هَذَا العَقْلَ الَّذِي نَحْمِلُهُ لَا يُطِيقُ العَشْوَائِيَّةَ، فَهُوَ يَبْحَثُ عَنِ النِّظَامِ الرِّيَاضِيِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ نَرَاهُ فِي تَرْتِيبِ بُذُورِ قُرْصِ دَوَّارِ الشَّمْسِ أَوِ التِفَافِ القَوَاقِعِ الَّتِي تَتْبَعُ مُتَتَالِيَةَ فِيبُونَاتْشِي 0 , 1 , 1 , 2 , 3 , 5 , 8 , 13 وهكذا. حَيْثُ تَتَوَلَّدُ النِّسَبُ الجَمَالِيَّةُ مِنْ مَنْطِقٍ حِسَابِيٍّ صارم، كما نَلْمَحُ هَذَا النِّظَامَ فِي الأَشْكَالِ الهَنْدَسِيَّةِ المُتَكَرِّرَةِ فِي نَدَفِ الثَّلْجِ وَعُرُوقِ الشَّجَرِ، وَالَّتِي تُعْرَفُ بِـ الكَسِيرِيَّاتِ (Fractals)؛ وَهِيَ تِلْكَ الأَنْمَاطُ الَّتِي يُشْبِهُ فِيهَا الجُزْءُ الكُلَّ بِمَا لَا يَتَنَاهَى مِنَ التَّفَاصِيلِ.
لَكِنَّ المُفَكِّرَ نَسِيم نِيكُولَاس طَالِب يُحَذِّرُنَا فِي كِتَابَيْهِ “خَدَعَتْهُ العَشْوَائِيَّةُ” وَ “البَجَعَةُ السَّوْدَاءُ” مِنْ هَذَا الفَخِّ؛ فَهُوَ يَرَى أَنَّ عُقُولَنَا تَقَعُ ضَحِيَّةً لِـ “المُغَالَطَةِ السَّرْدِيَّةِ”، حَيْثُ نَتَوَهَّمُ وُجُودَ مَنْطِقٍ وَسْطَ “ضَجِيجِ” العَشْوَائِيَّةِ. وَمِنْ هُنَا يَتَّخِذُ بَعْضُ المُحَلِّلِينَ الِاقْتِصَادِيِّينَ قَرَارَاتٍ خَاطِئَةً بِنَاءً عَلَى مَا اعْتَقَدُوا ــ خَطَأًــ أَنَّهُ اكْتِشَافٌ لِنَمَطٍ مُعَيَّنٍ فِي مُنْحَنَى أَسْعَارِ أَسْهُمِ المَعَادِنِ النَّفِيسَةِ مَثَلاً، بَيْنَمَا الحَقِيقَةُ أَنَّ تِلْكَ المُنْحَنَيَاتِ لَيْسَتْ سِوَى تَقَلُّبَاتٍ عَرَضِيَّةٍ لَا تَقِلُّ عَرَضِيَّةً عَنْ تَشْكِيلَاتِ الغُيُومِ فِي السَّمَاءِ.
هَذَا المَيْلُ البَشَرِيُّ لِلْإِسْقَاطِ هُوَ مَا جَعَلَ الطِّبَّ النَّفْسِيَّ يَتَّخِذُ مِنَ البَارِيدُولِيَا أَدَاةً لِلتَّشْخِيصِ، كَمَا فِي “اخْتِبَارِ رُورْشَاخ” لِبُقَعِ الحِبْرِ؛ حَيْثُ تَعْكِسُ مَا تَرَاهُ هَوَاجِسَكَ العَمِيقَةَ؛ إِذْ إِنَّ مَنْ يَرَى فِي نُقْطَةِ الحِبْرِ تِلْكَ “خُفَّاشاً” يَخْتَلِفُ تَمَاماً عَمَّنْ يَرَى فِيهَا “شَخْصَيْنِ يَرْقُصَانِ”. فَالصُّورَةُ وَاحِدَةٌ، لَكِنَّ العَقْلَ هُوَ الَّذِي يَمْنَحُهَا الهُوِيَّةَ بِنَاءً عَلَى مَخْزُونِهِ الخَاصِّ.
وَلَا يَقْتَصِرُ هَذَا الِاسْتِسْقَاطُ عَلَى البَصَرِ، بَلْ يَمْتَدُّ لِسَمْعِنَا. فَفِي رِوَايَةِ “اتِّصَال” (Contact) لِسَاغَان، تَتَجَسَّدُ الكَائِنَاتُ لِلْبَطَلَةِ فِي صُورَةِ وَالِدِهَا الرَّاحِلِ لِتَتَوَاصَلَ مَعَهَا عَبْرَ ذَاكِرَتِهَا. هَذِهِ النَّزْعَةُ هِيَ ذَاتُهَا الَّتِي عَاشَهَا البَاحِثُ فْرِيدْرِيك يُورْغَنْسُن عَامَ 1959، حِينَ تَهَيَّأَ لَهُ وَسْطَ ضَجِيجِ تَسْجِيلِ العَصَافِيرِ صَوْتُ وَالِدَتِهِ وَهِيَ تُنَادِيهِ: “فْرِيدِل الصَّغِير”.
مَاذَا خَطَرَ بِبَالِ الإِنْسَانِ الأَوَّلِ عِنْدَمَا صَادَفَ صَخْرَةً رَأَى فِيهَا وَجْهاً يُحَدِّقُ بِهِ؟ هَلْ بَدَأَتِ الوَثَنِيَّةُ مِنْ هُنَا؟
فِي مِنْطَقَةٍ يَتَقَاطَعُ فِيهَا العَقْلُ وَالثَّقَافَةُ، رَأَى البَعْضُ تَجَلِّيَاتٍ عَلَى رَغِيفِ خُبْزٍ لِوَجْهِ العَذْرَاءِ أَوِ المَسِيحِ، أَوْ لَمَحُوا اسْمَ الجَلَالَةِ فِي حَبَّةِ طَمَاطِمَ. وَقَبْلَ أَنْ تَعْتَبِرَهَا لَحْظَةً خَارِقَةً، اسْأَلْ نَفْسَكَ: لِمَاذَا ظَهَرَتْ لِي هُنَا وَلَمْ تَظْهَرْ فِي سَاحَةِ المَدِينَةِ مَثَلاً؟
إِنَّنَا نَرَى الوُجُوهَ فِي الصُّخُورِ لِأَنَّنَا نَبْحَثُ عَنِ الرِّفْقَةِ، وَنَسْمَعُ الأَصْوَاتَ فِي الرِّيحِ لِأَنَّنَا نَخْشَى الصَّمْتَ. تَمَاماً كَمَا فَعَلَ رَجُلُ الأَعْمَالِ فِي قِصَّةِ “اتِّصَال” الَّذِي اخْتَارَ المَدَارَ حَوْلَ الأَرْضِ وَطَناً أَخِيراً لَهُ، نَحْنُ نُؤَنْسِنُ الكَوْنَ لِنَشْعُرَ بِالخُلُودِ. وَكَمَا يُنَبِّهُنَا طَالِب، عَلَيْنَا أَنْ نَحْذَرَ؛ فَنَحْنُ نَخْلُقُ رَفِيقاً مِنْ حَجَرٍ وَمِلْحٍ لِنَشْعُرَ بِأَنَّنَا دَائِماً فِي بَيْتِنَا.

قد يعجبك ايضا