يحيى السنوار: مَن رقّد إسرائيل.. ثمّ أغرقها بـ”الطوفان”
الشعب نيوز:-
عبد المنعم علي عيسى
تكاد سيرة يحيى السنوار تكون ظلّاً لمسيرة وطن سليب ما انفكّ يتعرّض لمحاولات تذويب هويته واقتلاع جذوره، فيما سياقات التجربة التي عاشها الرجل تقول إن قرار تغيير قواعد اللعبة، كان يسكن في دهاليز النفس على الدوام. ألقى به ذلك في أتون رياح تَمازج فيها «العقائدي» مع «السياسي»، وكلاهما مع «العسكري»، لتخرج إلى العلن لوحة تُظهر انبعاث الذات الفلسطينية، وعبرها استعادة القضية توهّجها، مع كل ما يعنيه الفعل من إزالة لمحطّات التيه التي استولدتها ظروف عدّة، من نوع فقدان البوصلة حيناً، أو اختلال آليات العمل المعتمَدة حيناً آخر.تعود جذور أسرة السنوار إلى بلدة مجدل عسقلان التي وقعت تحت سيطرة عصابات «الهاغانا» في نيسان 1948، لترحل الأسرة مذّاك في اتّجاه مخيم خانيونس، أحد ثمانية مخيمات قامت على أرض ستُعرف لاحقاً باسم قطاع غزة، المحدود بطول لا يزيد عن 41 كيلومتراً، فيما عرضه يتحدّد بثنائية تبدأ بستة كيلومترات وتنتهي بـ12 كيلومتراً. لكن رغم ذلك، ستكون تلك الجغرافيا الضيقة، على موعد مع حمولات تتحدّد أولاً بحجم ما راكمته الذاكرة الفلسطينية في ذاتها الجمعية، قبل أن ترسمها قوانين الأمم المتحدة. كانت البيئة المركّبة ثقيلة الوطأة على الوليد الذي خرج إلى النور في 29 تشرين الأول 1962، وزاد من ذلك أن العائلة كانت تعيش درجة قصوى من الفاقة والعوز، مع شظف يَظهر عبر التفاصيل اليومية، حتى ليكاد كلّ شيء فيها يقول: لماذا كلّ ذلك؟
قد تكون الأجوبة الأولى على السؤال السابق شديدة الغموض، الأمر الذي حتّمته مناهج التاريخ في ثانوية خانيونس التي كانت تعرض «النكبة» بسردية دراماتيكية، من دون أن تقدّم حلولاً لها. إلّا أن الفعل سيتغيّر مع الالتحاق بـ«الجامعة الإسلامية» التي احتوت على «بلسم» يشفي غليل الفتى، كما يبدو. هناك، وجد أن «ترياق الإسلام» هو الوحيد القادر على تجييش الذات وإيصالها إلى حالة اليقظة الكفيلة بتقديم الحلول، وخصوصاً أنه تلمّس تجربة «فتح»، التي ألفى فيها خليطاً يبدأ عند أقصى اليسار ثم يحطّ رحاله عند أقصى اليمين، كان يشي بأن «اللاصق» ليس من النوع الذي يُعتدّ به في سياق الفعل الآنف الذكر. مع بلوغ السنوار عامه العشرين، تمّ اعتقاله لمدّة قصيرة لا تتجاوز الأربعة أشهر بتهمة «الانخراط في أنشطة تخريبية»، لكن الإعلان عن ولادة حركة «حماس» على يد الشيخ أحمد ياسين عام 1987، كان يبشّر بانخراط أكبر في المقاومة؛ إذ لطالما بدت الأدبيات والأهداف التي أعلنتها الحركة كفيلة بتلبية متطلّبات ما يدور في ذهنه. عام 1988، قضت محكمة إسرائيلية على السنوار بالسجن مدى الحياة لأربع مرّات (426 عاماً)، لكن مسار الأحداث سيساعد في كسر ذلك القرار الذي سيُختصر إلى 24 عاماً، إثر إبرام «حماس» صفقة تبادل أسرى مع سلطات الاحتلال، قضت بالإفراج عن الجندي جلعاد شاليط في مقابل الإفراج عن 1027 أسيراً فلسطينياً كان من بينهم السنوار. والصفقة التي أطلق عليها الفلسطينيون اسم «وفاء الأحرار»، كانت تتعدّى في رمزيتها ما يعنيه الاسم، لجهة كونها تمّت في مراحلها الثلاث، الأسر والاحتجاز والتفاوض، على أرض فلسطينية.
اللافت هنا هو أن طرح اسم السنوار ضمن قائمة المطلوب الإفراج عنهم لم يلقَ معارضة من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، حتى أن مصر، وفق تقارير غربية، كانت ترى فيه شخصاً «يمكن لإسرائيل العمل معه»، بعد سنوات من التوتّر مع القطاع الذي سيطرت عليه «حماس» عام 2007، وخصوصاً أنه كان من بين الموقّعين على «وثيقة الأسرى لعام 2006»، والتي تدعو إلى الكفاح من أجل إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين. عند خروجه من السجن، في شباط 2011، وبعد أيام من دخوله إلى غزة، اشتُهر بتصريحه الذي تعهد فيه «بإطلاق سراح جميع السجناء الفلسطينيين». ومع ذلك، لم يُثر التصريح حفيظة جهاز «الشاباك»، الذي ظلّ يرى في السنوار «رجلاً واقعياً»، معتبراً أن التصعيد في كلامه لا يعدو كونه «للاستهلاك المحلي»، حتى بعد أن كثُر ترداد الرقم 1111 في جلّ مواقف الرجل، بل وفي معظم مجالسه الخاصة، في إشارة إلى مطالبة «حماس» بالإفراج عن 1111 أسيراً فلسطينياً، مقابل جثّتَي جنديَين إسرائيليَين محتجزَين في غزة. كان الفعل طاغياً على ذهنية الرجل بدرجة لا تبرّرها، فقط، حيثية أنه كان معتقلاً لمدّة تقارب الربع قرن.
وإذا كان تصنيف «الشاباك» للسنوار يمنحه صفة القدرة على «الخداع»، فالراجح هو أن الأخير استساغ تلك «اللعبة». ومع وصوله إلى رأس هرم قيادة الحركة في قطاع غزة عام 2017، سعى عبر علاقاته داخلها إلى تغيير ميثاقها «الداعي لإزالة إسرائيل»، ووضع بديل منه يعترف بـ«حدود 1967»، الأمر الذي وضعه أمام أحد خيارَين: أوّلهما التفاوض على عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، على رغم أن التيار الأقوى داخل «حماس» كان يَنظر إلى رئيس السلطة، محمود عباس، كـ«مفرّط بالحقوق الفلسطينية»؛ وثانيهما التوصّل إلى هدنة مع سلطات الاحتلال مقابل تلبية مطالب رئيسة، من مثل تطوير البنية التحتية في القطاع وإنشاء ميناء بحري فيه. وما جرى هو أن عباس أهال التراب على الخيار الأول، حينما اعتبر أن مسألة عودة السلطة إلى حكم غزة لا تعدو كونها «هدية مسمومة». وعندما ضغطت الحركة أكثر، كانت شروط عباس تقول بوجوب تخلّي الأخيرة عن أسلحتها تمهيداً لتفكيكها. وفي الخيار الثاني، أيقن السنوار أن إسرائيل لن تَقبل بـ«قطاع مزدهر»، ميناؤه يمكن أن ينافس ميناء حيفا. وإثر تكشّف «قشر» الخيارَين، طرح السنوار، عام 2018، مشروع «مسيرة العودة» التي كانت تقوم على سلسلة من الأعمال على طول الحدود مع الأراضي المحتلّة، بهدف الضغط على سلطات الاحتلال وتخفيف الحصار على القطاع، إلّا أن ذلك لم يفضِ إلى نتائج تُذكر، الأمر الذي دفع إلى حال من الاحتقان لم يلبث أن تفجّر بعملية «سيف القدس» عام 2021. ومن الراجح هنا، أن التخطيط لعملية «طوفان الأقصى» كان قد بدأ في العام المذكور، وتحديداً في أعقاب الانتخابات الإسرائيلية التي جرت فيه.
خريف هذا العام، عندما كان السنوار يضع، جنباً إلى جنب، مع محمد الضيف، اللمسات الأخيرة على «الطوفان»، كان الاثنان أيضاً أمام أحد خيارَين: الأول، أن تتشارك قيادة الداخل الرأي والتخطيط والتوقيت مع قيادة الخارج؛ والثاني، أن تبقى العملية سرية ولا يَعرف بتفاصيلها سوى أشخاص لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة وجميعهم في غزة. والراجح هنا أن رأي السنوار الذي يقول بالخيار الثاني، تبعاً لكاريزما الرجل وتجربته، هو الذي انتصر في النهاية، ليَخرج «الطوفان» بطبعة غزّية مغرقة في خصوصيتها. ولربّما كان من المفيد هنا، بعد أكثر من سبعة أسابيع، استعراض ذلك الخيار من كلّ جوانبه؛ فإذا ما كانت السرية، التي تعني حصر الأمر بـ«حماس» الداخل، ضرورة للنجاح في عمليات من هذا العيار، انطلاقاً من كون الفعل النقيض محفوفاً بمخاطر لا تُعدّ ولا تُحصى، فإنها، أي السرية، تحمل بين جنباتها العديد من العواقب التي من أبرزها أن صانع القرار قد يكون عرضة لسوء تقدير المشهد السياسي الذي سيتولّد من الفعل. والأمر سيّان في ذلك على ضفاف الحلفاء أو الخصوم أو القابعين بين المنزلتَين. فالمؤكد هو أن المناخ السياسي المحيط بأيّ صراع، شديد التأثير في مآلاته والنتائج التي يمكن أن يصير إليها.
قد يكون من الصعب الآن الحكم على الاعتبارات التي قادت السنوار إلى «التفرّد» بصناعة القرار، لكن الثابت هو أنه بقراره ذاك، كان قد ألزم التاريخ بفتح «أطهر وأشرف صفحاته»، وفقاً لما جاء في البيان الذي ألقاه محمد الضيف فجر السابع من تشرين الأول، والذي من المرجح أن يكون السنوار شريكاً في صياغته. فالكثير من الجمل والمفردات التي وردت فيه، كانت شبيهة بتلك التي حملها خطاب السنوار الذي ألقاه في ذكرى يوم القدس، في 14 نيسان الماضي، على مبعدة 175 يوماً من «الطوفان».