ماذا يحدث في غزّة؟ إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب
الشعب نيوز:-
” مقدِّمة”
مفردة “السؤال” وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الاسرائيلي٠
في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟
وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين.
الدكتور غازي فيصل حسين من العراق يكتب لنا من زاويته “ماذا يحدث غزة”؟
قضية فلسطين وغياب حق تقرير المصير في دولة مُستقلة
د. غازي فيصل حسين/العراق
أستاذ العلاقات الدولية
1-استراتيجية ميلاد الكيان
قرّرت الأمم المتحدة منذ سبعين عاماً تقسيم فلسطين عام 1947 عبر تأسيس دولة إسرائيل بوصفها وطنا قوميا لليهود، لتعويضهم عن سياسات الإبادة التي ارتكبتها ألمانيا النازية بحقهم، كما أوجب القرار الإعلان عن دولة عربية فلسطينية، التي لم تظهر إلى الوجود، مما دفع منطقة الشرق الأوسط إلى حالة فريدة من عدم الاستقرار وانعدام الأمن انعكست بصورة خطيرة على العلاقات الدولية. جاءت ولادة دولة إسرائيل، نتاجا لسياسة القوة والعنف الاجتماعي والعسكري المستند على تأويل التعاليم التوراتية ودعوة اليهود إلى أرض الميعاد بحثاً عن الخلاص عبر المعاناة والحرب حتى ظهور المسيح المخلص الذي ينقذ البشرية وينشر حكومة الله على الأرض. لذا ارتبط تاريخ إسرائيل بسلسلة من الحروب والاحتلالات التي تتناقض مع مبادئ وقواعد القانون الدولي خلال الأعوام: 1948، 1956، 1967، 1973، 1982 و2006 مما يؤشر الطبيعة العسكرية للدولة العبرية التي انعكست على البنية الطبقية في المجتمع وعلى طبيعة العمل والعلاقات بين قوى الإنتاج، فهي تمثل الدولة الوظيفية، حيث تهيمن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على رسم الاستراتيجية ووضع السياسات الشاملة لبناء دولة عسكرية وتكنولوجية متطورة وفي نفس الوقت تتبنى استراتيجية تضمن التفوق على الدول العربية مجتمعة.
2-سياسة القوة وضعف السياسة
لقد نجحت إسرائيل في التوصل إلى اتّفاقية التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية وشاركت في برنامج حرب النجوم الذي أعلن عنه الرئيس رونالد ريغان لمواجهة “إمبراطورية الشر السوفيتية”، وبعد نهاية الحرب الباردة حاول الرئيس الأمريكي جورج بوش، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 23 أكتوبر 1990، طرح أفكاره لبناء نظام دولي جديد، يقوم على الاعتراف بتعدّد الثقافات والمصالح والقوى، مما يوجب على الدول، المُشاركة الجماعية في صيانة الأمن والسلم الدوليين، عبر الاحترام المتبادل بين الجميع، والعمل على تجنب الحروب والأزمات، واعتماد الأمم المتحدة أداةً لإحلال السلام وحل المنازعات. ومن الملاحظ، أن الرئيس جورج بوش ذكر عبارة: “النظام الدولي الجديد”، 347 مرة خلال خطبه وأحاديثه، من 1990 حتى مارس 1991، بعدها لم يذكر التعبير سوى ثلاث مرات، لأن الواقع يُشير لعدم وجود نظام عالمي وفق المقاييس التي طرحت في مفهوم جورج بوش. “لأنّنا في عصر، وفق تصوّر محمد حسنين هيكل، توزعت فيه مراكز القوة التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية”، لذا “فإن القرن الواحد والعشرين يصعب أن يكون له ضابط واحد.. كما لم يعرف التاريخ نظاماً لإدارة العالم يومياً”.
مما لا شك فيه، أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تعاني من تحدّيات بالغة التعقيد، مما يفقدها القدرة والمرونة في التّحكم بجميع المجالات الحيوية في العالم. لذا، اقترح ريتشارد نيكسون، في كتابه: “نصر بلا حرب”، نقطتين على الإدارة الأمريكية: الأولى، استعادة الولايات المتحدة الأمريكية لقدرتها على الردع الاستراتيجي، من خلال دعم وجودها العسكري في الخليج العربي والشرق الأوسط. الثانية، تشجيع العالم الثالث لتبني اقتصاد السوق، والانفتاح أمام الشركات المتعددة الجنسية. ولغرض تحقيق الأهداف الأمريكية، يفترض تحويل الشرق الأوسط إلى مجال حيوي تابع للسيطرة الأمريكية، عسكرياً واقتصادياُ وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، والعمل على منع دوله من الحصول على تكنولوجيا عسكرية نووية، وضمان بقاء أوروبا حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة، لحماية مصالح الدول الصناعية الكبرى في حال اندلاع الأزمات والحروب. وهذا ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية، لتبني نظرية الرئيس جيمي كارتر، التي ربطت الأمن القومي الأمريكي بأمن الشرق الأوسط والخليج العربي. كما اقترح زبيغنو بريجنيسكي، فكرة: بناء “إطار إقليمي أمني”، في منطقة الشرق الأوسط، يُشكل امتدادا استراتيجياً لحلف شمال الأطلسي، عبر معاهدات دفاعية تركية-إسرائيلية-أمريكية.
وبموازاة استراتيجية الانتشار السريع، حاولت الإدارة الأمريكية التعبير عن رغبتها لدفع إجراءات تحقيق السلام في الشرق الأوسط، باتباع الطرق الدبلوماسية، وتشجيع الأطراف المعنية للتوصل لوضع حلول عملية للقضية الفلسطينية، في إطار سلطة فلسطينية للحكم الذاتي تبلورت في مؤتمر مدريد للسلام عام 1992، الذي استند على فكرة: “مقايضة الأرض بالسّلام”، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، التي أهملت حق الشعب الفلسطيني باستعادة كامل حقوقه المشروعة في عودة اللاجئين والتمتع بحق تقرير المصير للشعوب الذي تبناه الرئيس الأمريكي ودرو ويلسن وميثاق الأمم المتحدة لبناء دولته المُستقلة لكن الوقائع والأحداث أثبتت عدم جدية واشنطن في تحقيق السلام، فبعد اتفاقية أوسلو عام 1993 اغتيل الجنرال إسحاق رابين من قبل متطرف يهودي معادي للسلام، وانتهت قضية السلام في مفاوضات كامب ديفيد2 عام 2000 برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون إلى طريق مسدود، بسبب تمسك المفاوض الإسرائيلي بالاستحواذ على كل شيء وعدم التنازل عن أي شيء.
السلام في الشرق الأوسط، وفق تصور الرئيس بيل كلينتون، هو: ضمان الأمن المتبادل عبر تعزيز الثقة بين الأطراف المتنازعة؛ العمل على إنهاء المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل؛ تأسيس علاقات تجارية واقتصادية متعددة الأطراف لمعالجة قضايا البيئة وأزمة المياه في الشرق الأوسط. إن بناء قواعد للسلام والتوازن يرتبط بالرؤية الأمريكية للسلامPax Americana، أي نشر الليبرالية السياسية، والعمل على تنمية عقلانية اقتصادية ومالية، تشجع النظم السياسية العربية لتبني سياسة واقعية Real Politic، تُمكن من اتفاق دول الشرق الأوسط على ترتيبات سياسية وأمنية، اقتصادية وعسكرية، تلعب فيها الولايات المتحدة دوراً محوريا، عبر التنسيق مع توابعها الثلاثة: الجمهورية التركية وإسرائيل والمملكة العربية السعودية. لاحقاً، شدّد الرئيس بيل كلينتون على: ضرورة إبقاء “التفوق النوعي العسكري لإسرائيل على خصومها المحتملين”، كما أكد على أهمية العمل لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل التي تمتلك أكثر من 200 رأس كتلوي، مما يمنع الدول العربية من ممارسة حقّ الدفاع الذاتي المشروع عن النفس، وتعريض الأمن الجماعي العربي، الاقتصادي والسياسي والعسكري، لمخاطر كبيرة.
لقد حدّد مجلس الأمن القومي الأمريكي ثلاثة أهداف للإستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط: السيطرة على منابع النفط؛ وحرية المرور في الخليج العربي؛ وضمان أمن إسرائيل. ولتحقيق الأهداف الأمريكية، استطاعت واشنطن تأمين الحصول على تسهيلات عسكرية وإنشاء قواعد عسكرية ثابتة، ونشر قوات متحركة، لإبقاء الشرق الأوسط تحت إدارة القيادة العسكرية الوسطى للولايات المتحدة في دولة قطر. ولضمان أمن إسرائيل، تطرح واشنطن سياسة تحقيق التوازن بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، ولكن في إطار ضمان التفوق الإسرائيلي، بوصفه شرطاً لتحقيق التوازن. ولتوضيح طبيعة الاستراتيجية الأمريكية، يرى أنتوني ليك، مستشار الأمن القومي الأمريكي: أنّ السياسة الخارجية الأمريكية، تضع خياراتها في إطار التعامل مع الدول، كلّ وفق خصائصه، لذا يؤكد، أنّ من حق واشنطن اللجوء لاستخدام القوة العسكرية لردع الدول، أو الاعتماد على سياسة الاحتواء والعزل، عبر تعريض الدول لضغوط المقاطعة الاقتصادية والدبلوماسية والتكنولوجية، حيث تتعرض أكثر من 80 دولة في العالم لأشكال مختلفة من ضغوط المقاطعة الأمريكية أو بفعل قرارات صادرة عن الأمم المتحدة، وهذا ما يتنافى مع المواثيق والقوانين الدولية، التي أكدت على أهمية تعزيز التعاون بين الدول وتشجيع المجتمعات للانتقال نحو عصر الحداثة واستيعاب العلوم والمعرفة.
3-جرائم إسرائيل في الشرق الأوسط ودعم أمريكا لها
لقد ارتكبت إسرائيل عمليات القتل الجماعي في الحرب على لبنان عام 2006 وفي حصار وتدمير الحياة في غزة، كما سبق أن ارتكبت مجازر صبرا وشاتلا وقانا واستمرت في احتلال الجولان وبناء الجدار العازل وضم مدينة القدس والاستمرار في بناء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، كلّها نماذج تعكس استمرار استراتيجية الحرب للدولة العبرية، كما تخفي المأزق الذي وصلت إليه “نظرية الأمن الإسرائيلي” القائمة على اعتبار التفوق العسكري الساحق أساس الردع الشامل للوقاية من احتمالات تعرض المصالح الاستراتيجية لإسرائيل لأي شكل من أشكال التهديد. لكن الدرس الجوهري الذي ينبغي لإسرائيل إدراكه من تاريخ شن الحروب على الدول العربية في الشرق الأوسط، هو أنها لن تستطيع الحصول على السلام والاستقرار بالقوة العسكرية، مهما بلغت هذه القوة من التقدم التقني، ومهما كانت درجة تفوقها على الدول العربية منفردة أو مجتمعة.
الإدارة الأميركية في سعيها إلى الدفاع عن رؤيتها للاستقرار العالمي وعن مصالحها الحيوية وعن سياسات إسرائيل العسكرية، تعمل لتبني وبلورة القاسم المشترك بين إسرائيل والإدارات الأميركية المتعاقبة على اختلاف طبيعتها، والذي يتمثل في الرهان على سياسة القوة، والسعي إلى الاستئثار بالفرص والاستحواذ على مصادر الطاقة والثروات الطبيعية والأسواق في الشرق الاوسط، وفرض الأمر الواقع على البلدان العربية من خلال استغلال حالة التداعي التي يعيشها نظام الأمن الجماعي العربي، مما يشجع باستمرار إسرائيل في رفض الحلول الدبلوماسية والسياسية القائمة على العدل والإنصاف أي التي تحتكم إلى القانون الدولي والقيم الأخلاقية وقرارات الأمم المتحدة، لا إلى قانون القوة المادية العسكرية والحصار الاقتصادي وعنصرية التكنولوجية، بمعنى آخر تستمر إسرائيل برفض القبول بتوازن المصالح وتبادل المنافع بين الأطراف المختلفة في الشرق الأوسط. فإسرائيل تريد ضمان الأمن والاستقرار المطلق على حدودها، قبل تحقيق ضمان السلام في المنطقة، لكن سياسة القوة الإسرائيلية لن تستطيع ضمان الأمن عبر تقويض فرص الأمن والسلام لجميع الأطراف التي تحوّلت إلى سياسة الضعف والتشتت التي لن تسمح بظهور علاقات مبنية على التوازن القادرة وحدها على بناء منطقة للسلام والتعايش بعيداً عن سياسات الاستخدام المفرط للقوة والعنف العسكري وعنصرية التكنولوجية.
لقد دعت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في منتدى الديمقراطية والتجارة الحرة في الدوحة إلى آليات ومعايير عالمية، تمنع من الجماعات المتطرفة من الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية، وقالت: إن الديمقراطية “ليست مسألة فنية”، وإنه يجب منع من يحاولون استعمالها للاعتداء عليها. ثم بينت: إن الإسرائيليين والفلسطينيين البراغماتيين والعرب المعتدلين يجدون أنفسهم في جبهة واحدة في مواجهة المتشددين. لكن السيدة تسيبي ليفني لم تدرك أو لا تريد أن تعترف بأن العنف الإسرائيلي هو الذي أنتج العنف المضاد، وأنّ الجدار العازل وحرب الصواريخ والتدمير المستمر للبنية التحتية للشعب الفلسطيني واستمرار سياسة الإفقار والتهجير والتجويع وتطبيق سياسات الإبادة الجماعية العنصرية كلها عوامل تؤجج التطرّف والتشدّد، لذا فإن الحلّ المثالي ليس بالانقسام بين متشدّدين ومعتدلين والتي تعني استمرار ظاهرة الحرب والموت والدمار، بل بالعودة إلى التاريخ والعقل والمنطق، فلن يسود السلام في الشرق الأوسط ولن تتمتع دول المنطقة بالأمن والاستقرار والتنمية والتطور إلا عبر الاعتراف بكامل حقوق الشعب الفلسطيني المغتصبة منذ سبعين عاما. لقد توصّل المؤرخ الإسرائيلي آفي شاليم Avi Shlaïm في كتابه المعنون: “الجدار الحديدي، إسرائيل والعالم العربي” إلى استنتاج مفاده: “لا يمكن الاستبعاد الكامل لإمكانية لجوء الإسرائيليين لأخذ الدرس من أخطائهم وانتخاب قيادات تؤمن بأن التعايش بين دولتين يشكل حلاً حقيقياً وحيداً. إنّ الأوطان كالأفراد قادرة على التحرّك بعقلانية بعد استنفاد الحلول الأخرى”.