ليلة رمضانية..سعيد ذياب سليم

474
الشعب نيوز:-

ليلة رمضانية
تقترب الشمس من المغيب وترتفع أجنحة الملائكة حاملة الأعمال إلى السماء و آخرون ينزلون ليرقبوا ما يعمل الناس في الليل، و أنت في حالة من الذكر و التفكر تقلب الرأي في آيات الله حولك وتبدو عليك علامات الصيام وقد قطعت شوطا طويلا من النهار، يتسلل إليك من المطبخ “طشيش” الزيت على النار فيُسكِتُ اندفاع أفكارك وترى في عين العقل شرائح البصل تُقلّب في الزيت بهدوء لتبدا عروقها بالظهور و أطرافها تكتسب لونا أشقرا ثم تصبح بنية اللون و تزداد قتامة و قبل أن تصبح سوداء تسرع لها الملعقة تقلبها و تمنع احتراقها، في غمرة تصوراتك الفنية هذه تصلك رائحة احتراق و تستنشق دخانا تزكمك رائحته فتهرب مبتعدا عن المطبخ تغلق عليك غرفة أو تهجر البيت حتى موعد الافطار.
ثم تفطر.. وهذه مغامرة لا نقوى على وصفها -في الوقت الذي لا يجد فيه البعض إلا عشب الأرض- يداهمك الذهول بعد ذلك فأنت تحدق في الأشياء حولك وكأنك تلتقي بها لأول مرة!
لكنك تستقبل فنجان قهوتك الأول استقبال المحبين تحتضنه عيناك وتلثم حافته شفتاك بسعادة و تلتقي أهدابك مستنشقا تلك الرائحة القادمة من غابات “الأمازون ” ثم تصرخ متبتلاً…الله ..وتصحو ذاكرتك وتبدأ باستيعاب الحقائق تلك الوقائع “العصافيري” السكرية.
ويأتي وقت صلاة القيام فتقرر أن تُؤَدِّيها جماعة في المسجد الأقرب إليك ، في الطريق يركض الأطفال أمام النساء اللاّتي يسرن زرافات والشباب في همة والعجائز يحثون الخطى على الرصيف يقصدون المسجد.
تقام الصلاة و يشق الإمام طريقه بين المصلين ليقف في المحراب على سجادة خاصة بيضاء في دشداشة زرقاء تسر الناظرين.
يعلو صوته “استووا” فيتزاحم المصلون متلاصقين في الصفوف لا يتركون للشيطان فرجة بينهم.
يبدأ الإمام تلاوة الفاتحة بطريقة التحقيق ولمن لا يعرفها ينطق القارئ الأحرف حسب مخارجها بوضوح مع إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد وتحقيق الهمز فمثلا عند وقوفه في نهاية الآية في المد العارض للسكون يُتم ست حركات علما بجواز قصره حركتين ، وهكذا يكمل إمامنا تلاوته مرققا صوته تارة فيهمس همسا وتارة يرفع صوته في نداء أو تضرّع ممطّطا يغير نبرة صوته تائها بين المقامات.
بين تدبر للآيات وركوع وسجود كانت أعضاء الجسم تعمل بنشاط ويتدفق الدم بينها حاملا مكونات. ما هُضم من طعام رافعا كمية السعرات الحرارية في الجسم فيضيق علينا الصف وترتفع حرارة الجو حولنا والإمام في محرابه سعيد فنستغل انتهاء الركعتين لنهرب للساحة الخارجية حيث الهواء الطلق لكن عند ما تسجد تشتم روائح طعام تفوح من السجاد تثير صورا تلهيك عن أدعيتك.
في طريق عودتك وقد انتهت الصلاة و أطلت الدعاء لك و للأشقياء في شتى أنحاء الأرض وفي غزة يكسوك الرضى فتندفع و يندفع نهر بشري حولك يغطي الرصيف و جزء من الشارع و ترسل السيارات أضواءها في وجهك و يعلو غناء و موسيقى وضجيج مفرقعات ومن بعيد صوت صلاة.
لن ينتهي يومك دون نشرة الأخبار فتستغل الفترة المخصصة للدعايات في المسلسل الذي تتابعه الأسرة وتغزو إحدى المحطات الإخبارية وغزة هي الحدث الذي زاد امتداده عن خمسة أشهر بؤرة يختلط فيها النار و الدم و الجوع واد من جهنم صنعته إسرائيل أسمته شرقها الأوسط الجديد، فترى أما تطبخ في إناء خليطا أحمر وطفلا باكيا يصف كيف ضربهم صاروخ وقت إفطارهم و شفاه عجوز ترتجف وأشلاء ملفوفة بالبياض ومجرم الحرب نتنياهو يصف متى يغزو رفح، يبلع حلقك جرعة القهر هذه و تردد مع الطفل باكيا حسبنا الله و نعم الوكيل.
تهرب للنوم متجنبا السهر الطويل لتتمكن من الاستيقاظ ساعة السحور لكن كتابك يدعوك لتقلب أوراقه قليلا أو هاتفك -كما يحدث معي- أتصفح رواية “إذا كان مسافرا في ليلة شتوية” للكاتب “إيتالو كالفينو” يسرد فيها قصة قارئ اختار كتابا بهذا العنوان وبعد قراءة الفصل الأول وجد أن الرواية تنقطع لعيب تسببت فيه دار النشر فانطلق يلاحق كتابه و في كل مرة يجد مخطوطا فيقرأه فإذا هو رواية جديدة تنقطع بعد الفصل الأول وهكذا ، تصنف الرواية بسرد ما بعد الحداثة كل فصل فيها ينقسم إلى قسمين الأول يصف القارئ و الثاني بداية رواية جديدة يغالبك فيها الفضول فيغلبك.
تضع رأسك لترقد فتأخذك الأفكار في كل اتجاه و تصحو متفاجئا بالسحور لتبدأ من جديد تحمل همك و تصعد المنحدر.
سعيد ذياب سليم

قد يعجبك ايضا