يوميات إنسان خارج السرب..
الشعب نيوز:-
يوميات إنسان خارج السرب..
سليم النّجّار
تعتبر رواية “قاهرة اليوم الضّائع” للروائي إبراهيم عبد المجيد الصادرة عن منشورات المتوسط- إيطاليا، من الروايات التي يمكن وصفها بالرواية النفسية؛ فقد هيمن الزمن النفسي بل اللاشعوري كذلك، لذا بقيت راسخة في ذهن المتلقي بعد الانتهاء من قراءة الروائي. كما تصالحت الرواية مع البعد الحكائي فيها، وهذا ما جعل الرواية تتألّق، ومن حسنات هذا التوجّه أنّه ييسِّر ترجمة كلّ أحداث الرواية، وبالتالي لا يمكن تقديم حكاية روائية للشخصية التي تعيش في فضاء الرواية، دون أنْ تُعنى بالمكان، (- على فين يا حاج؟
إذن لقد رأوني. قلتُ:
– إلى مقهى ريش.
– ضحك وقال:
– المقاهي مغلقة يا حاج. ألا تعيش معنا؟
– قلتُ:
– ربمّا أجد مقهى في أيّ زقاق.
– قال:
– تفضّل يا حاج. ربّنا معاك ص١٥).
وكلّما تنوّعت الأفضية أتيحت الفرصة لتطوير أحداث الرواية، وقد يحيل الفضاء على مكان أو أمكنة حقيقية، لكن مع ذلك ففضاء الرواية تخييلي بامتياز، وهو مِنْ صنع الكاتب ولا يمكنه التطابق مع الواقع (- لا أعرف لماذا خرجتُ من المقبرة. أنا ميِّت منذ عام ٢٠٠٠، وكنتُ أرى الدولار يرتفع سعره فلا أغيّره. لقد متُّ تاركاً في بيتي مبلغاً كبيراً أخفيتُهُ عن زوجتي، لأفاجئها يوماً بالنقود. انتظرتُ يوم ارتفاع سعر الدولار حتّى مُتُّ ص١٧).
يدرك المتلّقي من السّطر الأوّل لرواية “قاهرة اليوم الضائع” إنّه أمام عمل تخييلي أي أنّها من ورق وكلمات، لذا حين كتب الروائي إبراهيم عبد المجيد روايته تخلّص من وهم الواقعية، (لم أكن على يقين أنّ الموتى يلبّون. النداء ص٩). وفي الوقت ذاته سعى عبدالمجيد إلى خلق “واقعيته” الخاصة، و”واقعيته” ليست سوى فنه الروائي، واللغة، أي يقدم لنا قطعة فنية منسجمة العناصر والمكونات٠٠ فرواية” قاهرة اليوم الضائع” تجاوزت فكرة نقل الواقع، ونقلت لنا واقع خاص بالرواية، الذي اضحي إضافة نوعية إلى الواقع الحقيقي، ومع ذلك يبقى “واقعا” مختلفا، تتكرّر فيه أسماء الشخصيات من جيل إلى جيل بشكل مربك، وحين تموت تصعد لذكريات الماضي وكأنّه حاضرًا في يوم وفاته، إنّها فنتازيا تخاطب مخيِّلة المتلقّي، الذي يسعى إلى البحث عمّا يريد الكاتب توصليه، عندها يصطدم القارئ بواقعية تحاكي عذاباته، وكأنّنا أمام مشهد درامي تسترسل الشخصية بالحديث بشكل مسهب، لا يؤدي إلى الملل، ليبدو للقارئ أنّ ذلك ليس مفتعلاً أو ثرثرة زائدة أو حشوا لغويا، (جروبي كان مثل مقهى ريش مركزاً للأرستقراطيين، ثمّ للمثقّفين والثوّار أثناء ثورة ١٩١٩ ص٢٣).
إنّ أهمية الحوار في رواية “قاهرة اليوم الضائع” تتجلى في خلق الجو الدرامي، لأنّنا بواسطته سنكون أمام الفكرة ونقيضها، فلكلّ شخصية تصوّرها ومصالحها.
وكلّما كان الحوار قصيرا ومتوتِّرا أدّى وظيفته، فالحوار الناجح يتمتّع بدرامية قوية” والدراما” في أبسط تعريفها هي الصراع، ولكي تتحقّق في القصّة فكر دائما في الشيء ونقيضه، وضع للشخصية الرئيسية مناقضة تمنعها من تحقيق أهدافها، (- إذن، نعود إلى الحقيقة حولنا.
-ماذا تقصدين؟
-فكّرتُ أنْ أعرض عليكَ اقتراحاً مجنوناً.
-ما هو؟
-أنت تركتَ البيت، لكنْ، لا زلتَ موجوداً هناك. لست مثلي الذي تركتُ البيت بشكل حقيقي.
-طيّب ماذا تريدين؟
-ما رأيك أن تجعل الرجال كلّهم يتركون بيوتهم بينما يظّلون فيها؟
-وما فائدة ذلك؟
-كلّ واحد سيعرف مًن يزور زوجته في غيابه ص٧٣)٠
وعادة القارئ دائما يهوى تلك “الانفلاتات “الفانطاستيكية” أو العجائبية، التي بقدر ما تبدو مفاجئة وغير معقولة ولا يقبلها المنطق، إلاّ أنّها تكسر “واقعية” الأحداث وتمنحها كثيرا من الطرافة المرتجاة، وتحلّق بالخيال القصصي إلى أقصى حدود، وهي حقيقة انفلاتات جميلة، تجعل القارئ ينفلت من صرامة الواقع، (وقفتُ لا اتكلّم. قالت:
-هل تشكّ فيه؟
-كيف أشكّ فيه والشرطة تعرف عنّا كلّ شيء؟
-إذن مالك؟
-ألا تلاحظين أنّ كلّ مَن قابلناهم كانوا يتحدّثون كالفلاسفة؟!
-عادي، الدنيا فاضية والعقل بيشتغل.
-أتوقّع أنْ يقول لي إنّ اليوم هو أكثر يوع باع فيه بطاطا، وإنّ الناس كثيرة ونحن لا نراهم ص١١١).
وإذا كانت رواية” قاهرة اليوم الضائع” بمثابة السياق الطبيعي كجزء أساسي في تعميق الهوية والدفاع عنها بطرائق جمالية محملة بخطاب تمييز الهوية وعواطفها الإجتماعية والتاريخية، الأمر الذي يدعو لضرورات التخطيط الاستراتيجي الروائي في الحفاظ على الهوية الحيوية بعيدا عن السكونية والارتكاس لماضيها القائم في الذاكرة والكتب، (مشينا في شارع الفَجَّالة. لم أتعِب نفسي بأيّ ذكريات وكتب في الشارع الذي صار محالّ سيراميك. رحتُ أتامّل العمارات كما كنتُ أفعل من قبل وكوثر تفعل ذلك والبائع ينادي “حلوة يل بطاطا- سخنة يا بطاطا” ص١١٥).
لم تكن الهوية الاجتماعية في يوم من الأيام بمنأى عن السَّرد، خاصّة عندما يتناول الأسلوب السردي تناوله الوقائع والأحداث والأطر والأزمنة والأمكنة والحياة الاجتماعية والفكرية بما تتضمّنه من طقوس من شعائر وطقوس وأساليب حياة. وبما أنّ الهوية الاجتماعية لا ترتبط بالأفراد فحسب، فكلّ جماعة تتمتّع بهوية تتعلّق بتعريفها الاجتماعي، وهو تعريف يسمح بتحديد موقعها في الوضع الاجتماعي في كتاب تلخيص ما بعد الطبيعة؛ يقول ابن رشد: (إنّ الهُوية بالترادف للمعنى الذي يطلق من الهو كما تشتقّ الإنسانية من الإنسان). وهو بهذا يعود بنا إلى مفهوم الهُوية أو الذاتية عند أرسطو باعتبارها تماثل الشيء ذاته. وما يثيرنا هنا ما طرحه الروائي إبراهيم عبد المجيد في روايته “قاهرة اليوم الضائع” في مسألة الهوية الاجتماعية في سرده، التي كانت جزءاً من آليات سلوك السّرد لشخصياته الروائية، (- لذلك نحن هنا. لو رأيتُكِ أيَّام زمان كنتُ أوصلتُكِ للمجد. جسمك حلو، ورقصك- أكيد- كان سيعجب مخرجي السينما. ما أكثر ما ورَّدتُ نساء لشارع الهرم. قومي، يا لبلبة، ورَّبهم ص١٢٢).
وهكذا أصبح الصدم بين ما هو تخييلي، والزمن الذي تبلور على شكل درامي أخذ طابع الأمنية، التي تحيلنا إلى الارتكاس لهوية نحتاج تذكّرها. فثمّة أسئلة تتناوب حول القطيعة مع الماضي، فكانت إجابة الروائي. جاءت على لسان أموات، وكأنّ الأحياء أصبحوا في خبر كان، أو على هامش العجز، لذا فضّل الكاتب استنهاض الموتى، والانحياز لحواسنا مع هذا القدر المحتوم، الذي تمّ تفعيله، ليقدّم هويّة حيّة، إنّها معادلة صعبة، تتأتّى الهوية المعاصرة. على لسان موتى، كأنّنا أمام كاميرا سينمائية تلتقط اللحظة الفارقة في حياتنا، (- بالعكس. الدنيا زحام والناس كثيرون حولنا. ألا تراهم؟
تلفّتَ حوله، ثم قال:
-أين هم الناس؟! لا أحد غيرنا! ص١١٢).
تأتي أهمية التوظيف الرمزي في رواية “قاهرة اليوم الضائع” نزوعها نحو التعامل مع الموتى كقيمة جمالية خالصة، إنّها مفارقة أقرب إلى التورّط بالمفاهيم النقدية لحياتنا المعاصرة، فجاءت الرواية تتحدّث عن اليوم الضائع كرمز عن حقبة زمنية عاشها الإنسان العربي، وهذا ما أعطى الرواية قيمتها الإنسانية المفتوحة على كلّ التأويلات التي قد يبتدعها الملتقّي وكلُّ حسب ثقافته.