رواية جديدة قصة قصيرة/لطيفة محمد حسيب القاضي

5٬707
الشعب نيوز:-

في كل صباح، أجلس في المقهى كعادتي منذ أكثر من عشرين عامًا. أضع أوراقي وحاسوبي على المنضدة المستطيلة والمرتفعة قليلاً. أتربَّع على الكرسي المريح جدًّا.
أنظر من خلال زجاج الواجهة المطل على النهر الذي ينساب بهدوء، مشهد أكثر بهجة وجمالاً.
الهواء يلامس الماء برشاقة، فيخلف موجات صغيرة. الطيور تحلق في السماء في سرب منتظم. تمر مراكب الصيد الصغيرة ذات الألوان الزاهية. أرى الصيادين يرمون بالشباك في النهر على أمل جمع الأسماك والرزق، فيلتقطون في شباكهم الأسماك الحية التي تتراقص. قوارب طويلة تسير بسرعة، حاملةً أشخاصًا يصطفون بشكل طولي. المنظر كأنه لوحة سحرية تتألق بجمالها.
أشعر براحة كبيرة في هذا المقهى، حيث أجد ما أريده من العزلة والهدوء.
أبدأ يومي بتناول فطائر الجبن، لعلها تهدئ معدتي قليلاً قبل أن أرتشف قهوتي. فأستريح لبضع دقائق، وتعود معدتي لتؤلمني بعد شرب القهوة. أسرعت للبحث عن دواء لدوار المعدة في حقيبتي الكبيرة الممتلئة بأوراق كثيرة مبعثرة، ومرآة صغيرة، وأحمر شفاه، وعلبة صغيرة من كريم لترطيب اليدين، وقطع مبعثرة من الشوكولاتة. ولكني لم أجد الدواء، ربما نسيته في البيت.
بسرعة، قمت بتفريغ محتويات حقيبتي على الطاولة للبحث عن حبوب المعدة. وأخيرًا وجدتها، فالتقطت حبة ووضعتها في فمي وابتلعتها بكوب ماء.
انتظرت قليلاً ريثما يسري مفعول الدواء، لكي أبدأ يومي وعملي لكتابة رواية جديدة.
في هذا اليوم، وقفت أمامي امرأة جميلة. شعرها أشقر ناعم قصير ومنسق، وتتميز ملامح وجهها بالنعومة والرقة، مع خدود وردية وابتسامة بريئة الألباب.

استأذنتني وسحبت كرسي، ثم جلست وبدأت تتحدث عن روتيني الدائم في ذلك المقهى وانشغالي في العمل والكتابة. وسألتني عما أكتب، فأجبتها أنني أحضر لكتابة رواية جديدة. لكنها كانت لطيفة ومريحة، فحكينا عن بعضنا البعض وحياتنا الاجتماعية. كانت تثرثر في كل شيء وتسكب أسرارها سكبًا بكل راحة وتلقائية.
شعرت بأنها تتمتع بشخصية هادئة ومتواضعة، فهي ذكية وتحب القراءة والموسيقى. تبادلنا الضحكات وأرقام الهواتف، ثم رحلت.
أردت العودة من جديد إلى عملي، ولكنني شعرت بأنني لم أعد بكامل طاقتي. جلست أنظر إلى شاشة اللابتوب، ولكن فكري مشغول بكل الأبواب التي فتحتها تلك المرأة، وبمد يد الصداقة التي مدتها لي، فحاولت الإمساك بها.
فجأة أضحت الرياح شديدة، تبعثرت أوراقي في أنحاء المقهى والهواء يحاول انتزاعي من مكاني. أسراري كلها مبعثرة على الأرض والطاولات المجاورة. كتاباتي التي كتبتها والتي تحتوي على قصص حب قديمة تبعثرت أمام المارة. مواقفي المحرجة التي كتبتها بالحبر الأسود، ومشاعري التي خبأتها بقطعة بلاستيكية أصبحت منثورة أمام الجميع.
حاولت بكل هدوء أن ألملم أوراقي وأجمع حكايات وأغلق بابي وروحي التي بعثرتها الرياح العاتية. حاولت أن أهدأ نفسي لعل الأبواب تتوارب قليلاً.
أقنعت نفسي بأن أفكر بأشياء مبهجة، وأن أركز في الكلمات العشوائية التي تصدح في المقهى. عليَّ أن أنسى ما حدث.
أغمضت عيني قليلاً لكي أستحضر حلمًا قديمًا. لكنني أسمع صرير الأبواب بداخلي وهي تغلق ببطء..
تهدأ الرياح واسترددت اتزاني قليلاً.. قليلاً.
وسرعان ما تهب العاصفة مرة أخرى ويعاودني التوتر.
في اليوم التالي كعادتي، عدت إلى مكاني وإلى هدوئي ليبدأ يومي مع فطيرة الجبن ثم احتساء قهوتي. رتبت أوراقي وأمسكت قلمي لكي أشرع في كتابة بداية لروايتي الجديدة.
رأيتها هناك جالسة مع أخريات تتبادل الثرثرة، فزادت نبضات قلبي عندما رأيتها. ابتسمت لي ودعتني للانضمام إليها. اعتذرت لها بسبب انشغالي فعادت هي لطاولتها، وأنا عدت لوحدتي أفكر في بداية جديدة لروايتي.
أنهيت من احتساء قهوتي وطلبت مشروبًا آخر ساخنًا. وضعت ساقًا على ساق في محاولة للالتفاف حول روحي لاستجمع فكري وأبدأ في كتابة روايتي الجديدة. لم أنجح، فجمعت كل أغراضي ورحلت.
في الصباح التالي، قررت أن أغير وجهتي إلى مقهى جديد معزول عن العالم وما فيه بأبواب مغلقة.

قد يعجبك ايضا