الاستعلام الائتماني والشيكات المرتجعة: قراءة من منظور قانوني واقتصادي..د. عبير خالد مصلح

الشعب نيوز:-

في خطوة بالغة الأهمية على طريق تحديث المنظومة المالية والائتمانية في الأردن، قرر مجلس الوزراء إتاحة خيار الاستعلام الائتماني رقمياً من خلال شركة «كريف الأردن»، بما يمكّن الأفراد والمؤسسات من التحقق من الملاءة المالية للأشخاص أو الشركات قبل التعامل معهم، وبخاصة في ما يتعلق بإصدار الشيكات. القرار يُعد نقلة نوعية في مسار تعزيز الشفافية والحد من المخاطر المالية، ويأتي استجابة لمتطلبات السوق والبيئة الاستثمارية في عصر الاقتصاد الرقمي.

وقد جاء هذا القرار في سياق تفاقم أزمة الشيكات المرتجعة في الأردن، والتي باتت تشكل تحدياً مالياً وقانونياً على حد سواء. فالشيك الذي لطالما اعتُبر أداة وفاء، تحوّل في ممارسات كثيرة إلى أداة ائتمان غير مضمونة، ما أضعف الثقة في التعاملات التجارية، وزاد من حجم القضايا المتراكمة أمام المحاكم، وأدى إلى زعزعة استقرار بيئة الأعمال، لا سيما لدى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على السيولة المستقرة وضمانات الدفع.

تزداد أهمية هذا القرار حين نضعه في سياق التطورات التشريعية الأخيرة، وعلى رأسها إلغاء حبس المدين في القضايا المدنية، الذي كان يُنظر إليه لسنوات كوسيلة ضغط لضمان السداد، لكنه في المقابل واجه انتقادات حقوقية واقتصادية واسعة. وبينما فُتح هذا الملف ضمن جهود إصلاح العدالة وتحقيق التوازن بين الحقوق والحريات، جاء نظام الاستعلام الائتماني ليكون أحد البدائل الوقائية التي تعزز من آليات الحماية المسبقة، وتساعد على اتخاذ قرارات مالية رشيدة بعيداً عن اللجوء إلى العقوبات السالبة للحرية.
يُمثّل التحوّل من نظام حبس المدين إلى اعتماد أدوات استباقية مثل الاستعلام الائتماني نقطة فاصلة في مسار تطور التشريعات المالية في الأردن. فقد شكّل قانون حبس المدين في الأردن لعقود طويلة إحدى الأدوات القانونية التقليدية لضمان الحقوق المالية، خصوصا في قضايا الشيكات المرتجعة. وكان يُنظر إليه باعتباره رادعا فعالا يحفظ انضباط السوق ويوفّر أداة ضغط قانونية لإجبار المدينين على السداد. إلا أن هذا النهج لم يكن بمنأى عن الجدل، حيث وُجّهت إليه انتقادات حقوقية واسعة، لما انطوى عليه من تعارض مع المبادئ الأساسية للحرية الفردية، ولِما سبّبه من أعباء إنسانية واجتماعية واقتصادية، لا سيما حين يُستخدم الحبس أداة لإكراه غير القادرين، لا الممتنعين عن السداد.
ومع ازدياد الدعوات لمواءمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان ومبادئ العدالة الناجزة، بدأ التفكير الجاد في بدائل أكثر اتزانا. وقد تبلورت هذه التوجهات مؤخرًا بإلغاء الحبس في القضايا المدنية، ما خلق فراغا تشريعيا وأداتيا في مسألة تحصيل الحقوق، خاصة مع استمرار أزمة الشيكات المرتجعة وتنامي معدلاتها.
في هذا السياق، جاء القرار الحكومي الأخير بإتاحة خيار الاستعلام الائتماني كأداة بديلة ذات طابع وقائي، لا عقابي، تهدف إلى الحد من مخاطر التعاملات المالية من جذورها. ويقوم هذا النظام، الذي يتم تنفيذه من خلال شركة «كريف الأردن»، على إتاحة معلومات ائتمانية موثوقة تُمكّن الأفراد والشركات من التحقق من السجل الائتماني والملاءة المالية للطرف الآخر قبل إصدار الشيك أو إتمام الصفقة.
إن التحول من سياسة الردع بالعقوبة إلى منطق الوقاية بالشفافية يُمثل نقلة نوعية في التفكير التشريعي والاقتصادي. فالاستعلام الائتماني يمنح الأطراف القدرة على اتخاذ قرارات مالية قائمة على معلومات دقيقة، ويقلل من عنصر المفاجأة والمخاطرة، ما من شأنه أن يُخفف من حالات التعثر والشيكات المرتجعة، ويُعيد الثقة إلى الأسواق.
في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجه الأردن، يُعد القرار الحكومي بإتاحة خيار الاستعلام الائتماني خطوة إستراتيجية نحو تعزيز الشفافية والحد من المخاطر المالية. هذا القرار لا يقتصر تأثيره على تقليل حالات الشيكات المرتجعة فحسب، بل يمتد ليشمل تحفيز بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات، خاصة في ظل التراجع الذي شهده الاستثمار الأجنبي المباشر في السنوات الأخيرة.
وفي هذا الاطار تشير البيانات إلى أن الشيكات المرتجعة ما تزال تشكل تحديا كبيرا في السوق الأردني. وبحسب إحصاءات الشركة الأردنية لأنظمة الدفع والتقاص (جوباك)، بلغ عدد الشيكات المرتجعة في شهر آذار 2025 حوالي 16.4 ألف شيك، بقيمة إجمالية بلغت 83.9 مليون دينار، ما يمثل نسبة 2.57 % من إجمالي الشيكات المتداولة خلال ذلك الشهر. وتُظهر هذه الأرقام استمرار التحديات المرتبطة بالشيكات المرتجعة، مما يستدعي حلولا فعالة للحد من هذه الظاهرة.
وفي ذات السياق ايضاً ووفقًا لبيانات البنك المركزي الأردني، بلغت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة إلى المملكة خلال النصف الأول من عام 2024 حوالي 412.8 مليون دينار، مقارنة بـ396 مليون دينار خلال نفس الفترة من عام 2023. ومع ذلك، أظهرت البيانات أن حجم الاستثمار الأجنبي للعام 2024 تراجع بنسبة 18.5 % مقارنة مع العام 2023. يُعزى هذا التراجع إلى عدة عوامل، منها عدم وجود آليات فعالة للتحقق من الجدارة الائتمانية، مما يزيد من مخاطر الاستثمار.
ومن زاوية أخرى تلعب الشركات الصغيرة والمتوسطة دورا حيويا في الاقتصاد الأردني، حيث تُشكل نسبة كبيرة من إجمالي الشركات وتوفر فرص عمل لعدد كبير من المواطنين. إلا أن هذه الشركات غالبا ما تواجه صعوبات في الحصول على التمويل بسبب نقص المعلومات الائتمانية. يُمكن لنظام الاستعلام الائتماني أن يُسهم في تحسين سمعة هذه الشركات الائتمانية، مما يُسهل عليها الوصول إلى التمويل ويُعزز من قدرتها على النمو والتوسع.
وتماشياً مع ما تم ذكره فانه يُعد توفر المعلومات الائتمانية عنصرا أساسيا في تحسين بيئة الأعمال. من خلال تمكين الشركات من تقييم المخاطر بشكل أفضل، يُمكن لنظام الاستعلام الائتماني أن يُسهم في تقليل حالات التعثر المالي، وتحسين العلاقات بين البنوك والعملاء، وتعزيز الثقة في النظام المالي بشكل عام.
وفي ظل تحديات الشيكات المرتجعة التي تعاني منها الأسواق الأردنية وقرار الحكومة الأخير بالاستعلام الائتماني، بات من الضروري النظر إلى تجارب دولية رائدة في مجال الاستعلام الائتماني لتحسين النظام المالي وتعزيز بيئة الاستثمار.
فعلى سبيل المثال فان الولايات المتحدة الأميركية تمثل النموذج الأبرز في هذا المجال، حيث تعتمد منظومة الاستعلام الائتماني على قواعد بيانات ضخمة تدار من قبل وكالات ائتمانية متخصصة مثل «إكسبيريان» و»ترانس يونيون». وفقا لتقارير حديثة، تمكن هذا النظام من خفض نسب التخلف عن السداد وتحسين جودة الإقراض، ما ساهم في رفع معدلات الاستثمار بنسبة تتجاوز 5 % سنويا خلال العقد الماضي. في 2023، بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الولايات المتحدة أكثر من 250 مليار دولار، مدعوما بثقة عالية في شفافية المعاملات المالية.
وكذلك الحال في سنغافورة، التي تعتبر من أكثر الأسواق تنظيما وشفافية، نجحت في بناء نظام استعلام ائتماني متكامل يعتمد على تكامل البيانات المالية الحكومية والخاصة، مع تشريعات صارمة لحماية خصوصية الأفراد. ووفقا لتقرير البنك الدولي لعام 2024، ساعد هذا النظام في خفض معدلات القروض المتعثرة إلى أقل من 1.5 %، ما أدى إلى زيادة ملحوظة في تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل حوالي 40 % من الناتج المحلي، مما عزز النمو الاقتصادي الوطني بنسبة تقارب 4 % سنويًا.
تجارب هاتين الدولتين تبرز أهمية وجود أنظمة متقدمة وموثوقة للاستعلام الائتماني، مدعومة بإطار قانوني قوي يحمي البيانات ويضمن خصوصية الأفراد، وفي نفس الوقت يتيح شفافية وفعالية في تقييم الجدارة الائتمانية.
وفي ظل قرار الحكومة حول الاستعلام الائتماني، تتزايد الحاجة إلى وجود إطار قانوني صارم وفعال يحمي خصوصية البيانات المالية والشخصية للأفراد والمؤسسات. فالأمر لا يتعلق فقط بجمع المعلومات وتنظيمها، بل يتجاوز ذلك إلى ضمان عدم استغلالها بشكل يؤدي إلى انتهاك الحقوق أو التمييز في اتخاذ القرارات المالية. تعتمد فعالية أي نظام ائتماني على مدى الثقة التي يوليها مستخدموه في قدرة التشريعات على حماية بياناتهم، وهو ما يتطلب من الجهات التشريعية أن تضع قواعد واضحة تُنظم عملية جمع، تخزين، واستخدام المعلومات.
الاعتماد المفرط على البيانات الرقمية دون تنظيم ملائم قد يؤدي إلى مخاطر جمة، منها إمكانية إساءة استخدام المعلومات أو تسرّبها، ما قد يلحق أضرارا بالغة بالسمعة المالية للأفراد والشركات. من هنا تبرز أهمية تحقيق توازن دقيق بين الشفافية التي تعزز من مصداقية النظام المالي، والخصوصية التي تحمي الحقوق الفردية وتمنع التجاوزات. عدم وجود هذا التوازن قد يفضي إلى تقويض الثقة في النظام ككل، مما يعرقل أهدافه في تحسين بيئة الأعمال والحد من ظاهرة الشيكات المرتجعة.
وتأسيساً على ما سبق ولتحقيق التوازن المطلوب بين تعزيز نظام الاستعلام الائتماني وحماية الحقوق الأساسية للأفراد والمؤسسات، أرى ضرورة قيام المشرع الأردني بوضع إطار قانوني شامل وواضح يحدد مسؤوليات جميع الأطراف المعنية، بدءا من جهات جمع البيانات ومقدمي خدمات الاستعلام، وانتهاء بالمستفيدين من هذه المعلومات. ينبغي أن يتضمن هذا الإطار آليات صارمة لحماية البيانات الشخصية والمالية، تتيح للأفراد والمؤسسات حق الاعتراض على المعلومات الخاطئة وتصحيحها في الوقت المناسب، بما يضمن دقة وموثوقية السجلات الائتمانية ويعزز من مصداقية النظام.
كما يجب سد الفراغ التشريعي الحالي من خلال تضمين التشريع إجراءات رادعة وحازمة ضد أي إساءة في استخدام البيانات، مع فرض عقوبات قانونية واضحة على المخالفين وتفعيل آليات رقابية شفافة تضمن مراقبة مستمرة للنظام. ويجب أن تكون هذه الآليات مرنة وقادرة على مواكبة التطورات التكنولوجية، مع المحافظة على حماية صارمة للحقوق الفردية. إن اعتماد مثل هذا التشريع المنظم والمتوازن سيعزز الثقة في منظومة الاستعلام الائتماني، ويدعم نمو الاقتصاد الوطني، ويحد من المخاطر المالية التي تواجه الأفراد والشركات، ويخلق بيئة أعمال أكثر شفافية واستقرارا.
وفي الختام، يتضح أن القرار الحكومي بإتاحة الاستعلام الائتماني رقميا يمثل خطوة إستراتيجية محورية نحو تطوير المنظومة المالية في الأردن وتعزيز بيئة الأعمال والاستثمار. إن الانتقال من نظام حبس المدين إلى آليات استباقية تعتمد على الشفافية والمعلومات الموثوقة ليس مجرد تحول تشريعي فحسب، بل هو ركيزة أساسية لتحقيق الاستقرار المالي وحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من تعزيز الإطار القانوني والتنظيمي ليواكب التطورات الحديثة، ويضمن حماية البيانات وحقوق الأفراد، ويصون مبدأ التوازن بين الشفافية والخصوصية. إن نجاح هذا النظام الجديد يرتبط ارتباطا وثيقا بالتزام الجهات التشريعية والتنفيذية بوضع التشريعات المناسبة، وبناء ثقافة مالية قائمة على الوعي والمسؤولية. وفي ظل بيئة اقتصادية تتسم بالتحديات والفرص، يبقى هذا القرار بوابة نحو مستقبل مالي أكثر استدامة وثقة، قادر على دعم نمو الاقتصاد الوطني وجذب الاستثمارات، وتمكين الشركات، خصوصًا الصغيرة والمتوسطة، من المساهمة الفاعلة في التنمية الشاملة. لذلك، فإن العمل الجماعي والتنسيق بين كافة الجهات المعنية هو السبيل الأمثل لترجمة هذه الرؤية إلى واقع عملي يعزز من مكانة الأردن كمركز مالي واستثماري موثوق في المنطقة.

قد يعجبك ايضا