بطنا… وبيت جدّي بقلم: عاطف أبو حجر

الشعب نيوز:-

 

في بطنا… تبدأ الحكاية من داخل بيت الشعر، بين “الواسط” و”العمدان”، تعود بنا الذاكرة إلى جذور الحنين التي نبتت في التراب، وسُقيت بماء البئر، ونضجت تحت شمس لا تُشبه شمس اليوم.
هناك، حيث يصبح الوقت أبطأ، والرائحة أصدق، والصوت أنقى… تبدأ الحياة في صفحة لا يكتبها الزمن، بل القلب.
بيت الشعر لم يكن خيمة… بل كان وطنًا يتّسع لصوت جدّتي، لخطى الماعز، ولضحكاتنا التي تظلّ تهشّ الغياب عن وجوه الراحلين.
في منطقة بطنا، الواقعة على أطراف مدينة السلط، كنا نختبر طفولتنا الأولى كما ينبغي أن تُعاش: بلا شاشات، بلا تعقيد… فقط موارس قمح، وندى صباحي، وذكرى.
في زمنٍ كانت فيه الشمس أقرب، والقلوب أوسع، والصيف طويلًا بطول حكاياتنا الصغيرة… كنا نبحث عن شيء لا يُشترى: عن دفء بيت الشعر، ويد الجدّة، وكأس الشاي المغلي على نار الحطب، وصوت الماعز يملأ السكون بين السهول والتلاع والتلال.
لم يكن الصيف مجرّد عطلة، بل كان موسم الحياة الحقيقي؛ نترك فيه جدران بيوت المدينة والضجيج، لنلتحق بمدرسة الأرض — حيث العمل والجدّ، والجد، والجدّة، وسنابل القمح، وقصص الحب.
في كل عطلة صيفية، كنا نحن أولاد الخالات نتسابق للإقامة في بيت الشعر، بيت جدّي الفلّاح، والد والدتي (أبو أحمد)، في منطقة بطنا، قرب السيح، قرب خربة النبي أيوب والمقام.
كان جدّي ينصب بيت الشعر عند مدخل الغَرْس، حيث تنتشر أشجار التين، والزيتون، والصنوبر، والرمان، والمشمش، ودوالي العنب، وترتّب الطبيعة مشهدها بكل سحر وصدق.
وعلى مقربةٍ منه، حيث تنتشر اليوم أكوام من الحجارة الصامتة، كان يقوم بيت جدّ والدتي، شيخ عشيرة الوشّاحات، المرحوم وشاح الوشّاح “نزال الدربين” — بيتٌ غاب عن المشهد، لكنه ما زال حاضرًا في الذاكرة، كما لو أن جدرانه تتنفس الحنين من بين الركام.
كانت المنافسة قائمة بيني وبين ابن خالتي حسين – أبو العبد، وابن خالتي سمير، كلٌّ منا يحاول إقناع جدّي وجدّتي بأنه الأنشط، والأجدر بالبقاء أطول وقت ممكن.
كنّا نساعد جدّي في كل ما يخصّ الغرس: نحمل معه الثمار، ونسقي الأشجار، ونملأ زير الماء مع جدّتي من البئر، ونجمع الحطب، ونشارك في إعداد الطعام.
لكن ذروة المتعة كانت حين تُكلّفنا الجدّة بمهمة “سَرْح الماعز”.
كانت “الشِلْيَة” – عشرة رؤوس سمراء، بينها تيس عنيد، وجَدْي صغير، وسخلتان – تشكّل مغامرة يومية. نخرج بها إلى أطراف السفوح المحيطة بالبيت والمقام، نحمل معنا رغيفي شراك ومطَرّة ماء، نُسرّح، ونغنّي، ونركض، ثم نعود وقت الظهيرة لسقايتهن، ونخرج من جديد عند العصر، وكأننا لم نشبع بعد.
الليل في بيت الشعر كان له طقسه الخاص؛ جدّي يُشعل لوكس الشمبر، وجدّتي تُعدّ الشاي، ونسمع من الراديو “الفِلِبْس” أغاني بين الدوالي لسلوى وجميل العاص، “ياهلا بالضيف” لسميرة توفيق، و”لوّحي بطرف المنديل” لتوفيق النمري — على ضوء الشمبر وأجمل الحكايا، وسط الجلوس مع خوالي: أبو حاتم، وأبو علاء، وأبو بهاء، وأبو معتز، وخالتي ارتيهاج – أم كاظم، التي لم تكن قد تزوّجت بعد.
كم كانت الحياة بسيطة، لكننا كنا نحياها كأنها جنّة.
مرّ الزمن، وغاب جدّي، وغابت جدّتي…
لكن بيت الشعر لا يزال هناك، في الذاكرة، يُنصب كلما أغمضنا أعيننا شوقًا.
لا تزال ضحكاتنا تصدح في المكان، ولا تزال جدّتي تمدّ يدها لنا بكأس شاي، حتى وإن لم تعد بيننا.
لا زلتُ أتذكّر جدّتي وهي تصنع “الخبيصة” و”التطلي” من عنب الغَرْس، وأتذكّر جدّي وهو يعطيني فَرْاخ الحجل من عشٍّ كانت ترقد عليه ثم فرت عند اقترابنا، وأفراخها بدأت تدرج وتتقلّب للتمويه.
لا زلتُ أذكر ذلك اليوم كأنما نُقش في الذاكرة نقشًا لا يُمحى؛ يوم حمل جدّي معوله ومضى إلى أطراف الوادي ليحفر البئر، بشيبته الوقورة وعزيمته التي لا تنثني.
هناك، تحت شمس تموز اللاهبة، وعلى غصن تينة الحيّة “الحمارية”، رأيت عشّ طائر السودة، تحتضنه بيضات زرقاء كأنها نجوم السماء، يحرسها سكون مهيب كالأسرار.
وكانت حبات التين، ناضجة، مشطّبة، تتفطّر من فرط العسل، تسيل شهدًا فوق التراب، كأن الأرض نفسها تذوق حلاوة ما نضج فيها.
لحظة لا تشبه غيرها، جمعت بين الجدّ والحياة والطبيعة في مشهد لا يُنسى.
وماء البئر العذب، وخبز الشراك يُفرد على صاج جدّتي، والدجاج يملأ المكان حركةً وصوتًا حول بيت الشعر، وكلب لطيف يتربّع تحت شجرة الصنوبر، يراقب المكان ليلًا كحارس أمين.
نحن أبناء تلك الأيام التي لا تُنسى… أبناء بيت الشعر، أبناء الأرض.

قد يعجبك ايضا