
من التلقين إلى التحرر: التربية في عالم المقهورين وحيوانات المزرعة.. سعيد ذياب سليم
الشعب نيوز:-
المقدّمة:
تتركُ مولي عملها، وتلهو بانعكاسِ صورتِها في البركة، بينما يخطُّ بوكسر أربعةَ حروفٍ في الترابِ كي لا ينساها، ويتساءلُ بنجامين: “ما فائدةُ القراءة؟”. شخصياتٌ طريفةٌ صاغها جورج أورويل في مزرعة الحيوانات لتكشفَ كيف يُنتِجُ الاستبدادُ وعيًا زائفًا، وكيف تنقلبُ التربيةُ من أداةٍ للتحررِ إلى وسيلةٍ للقمع. في كتابه تربية المقهورين، يكشفُ باولو فريري آليّاتِ التعليمِ السلطويِّ وآثارَه في تشكيلِ العقلِ المستسلِم. هذا المقالُ يستعرضُ توازيًا بين مفاهيمِ فريري ومصائرِ حيواناتِ أورويل، ليفضحَ دورَ التربيةِ في صناعةِ الخضوع… أو فتحِ دربِ التحررِ والقضاءِ على الجهل.
المحور الأوّل: التربية كأداة قمع
مثلَ كثيرٍ من مثقّفي أمريكا اللاتينية، تعرّض باولو فريري للنفي، وجال في البلدان وعايش أوضاع المضطهدين. وقد أشار إلى ذلك في مقدّمة كتابه تربية المقهورين قائلًا:
“هذه الصفحات، التي تمهّد لكتاب تربية المقهورين، هي ثمرةُ ملاحظاتي خلال ستّ سنواتٍ من المنفى السياسي.”
إذًا، نحن أمام تجربةٍ عيانيّة، لا تنظيرٍ مجرّد.
ينتقد فريري ما يسمّيه “نموذج التعليم البنكي” — والذي نعرفه غالبًا باسم “التلقين” — حيث يُنظَر إلى الطلاب كأوعيةٍ فارغةٍ، والمعلّم كمودِعٍ للمعلومات. يؤدّي هذا النموذج إلى تكريسِ الخضوع بدلَ التحفيز على التفكير النقدي أو الإبداع، ويُفرغ العمليّة التعليميّة من بُعدها التحرّري.
ويُقابل هذا النموذج بما يسمّيه فريري “التعليم الحواري”، حيث يشترك المعلّم والطالب في الحوار والتجربة لبناء المعرفة، فيتحوّل التعلم من عملية تلقين إلى فعل نقدي واعٍ، يُنمّي التفكير النقدي ويحرّر الوعي. كما يقول:
“المعرفة لا تُلقَّن، بل تُبنى عبر الحوار والتجربة المشتركة.”
في “مزرعة الحيوانات”:
تُجسّد رواية مزرعة الحيوانات هذه الفكرة بوضوح. فالشخصيّات تُعامَل كما يُعامِل التعليم البنكي تلاميذه — مجرّد متلقّين لا يملكون حقّ التفكير أو التفسير.
نجد مثلًا ترديد الأغنام لعبارة:
“الأرجل الأربعة جيّدة، الأرجل الاثنتان سيّئة”،
شعارًا أجوف يُكرَّر بلا تفكير. وهذا يشبه تمامًا ما حذّر منه فريري من تلقين شعارات تُميت الوعي، وتُنتج جماعاتٍ مُنصاعةٍ لا ناقدة.
أمّا الخنزير نابليون، فهو يُمثّل نموذج السلطة التي تحتكر المعرفة وتُعيد تشكيلها لخدمة مصالحها. فقد غيّر الشعارات والحقائق حسب الحاجة — من “كلّ الحيوانات متساوية” إلى “لكنّ بعضها أكثر مساواة” — ممّا شكّل أداةً فعّالةً لغسل العقول.
من خلال هذا كلّه، تصبح التربية أداة قمع، لا بالعنف المباشر، بل بالتحكّم بالعقول، من خلال تكرار وتعديل الرسائل الموجّهة، وإقصاء الحوار والتفكير النقدي.
المحور الثاني: وعي المقهور
يتحدّث باولو فريري في تربية المقهورين عن “الخوف من الحرّيّة”، مشيرًا إلى أنّ الإنسان المقهور قد يتشبّث بالأنظمة القمعيّة، لأنّه لم يختبر الاستقلال الحقيقي من قبل. فالتحرّر يتطلّب وعيًا جديدًا بالذات والعالم، وهو أمرٌ مخيف لمن تربّى على الطاعة والاعتماد على السلطة.
في رواية مزرعة الحيوانات، تمثّل مولي هذا النموذج. فبدلًا من المشاركة في الثورة والعمل الجماعي، كانت تنظر إلى انعكاسها في البركة مفتونةً بجمالها، وتبحث عن شريطٍ أحمر تُزيّن به شعرها، وتسأل عن مكعّباتِ السُكّر التي كان السيّد جونز يُدلّلها بها. وحين ضُبطت وهي تتحدّث إلى أحد رجال المزارع المجاورة، اختفت فجأة، ليُكتشف لاحقًا أنّها هربت إلى مزرعة أخرى حيث عادت إلى حياة الترف مقابل الخضوع. هذا الهروب يُعبّر عن الخوف من الحرّيّة والمسؤوليّة، والحنين إلى الراحة تحت نير الاستبداد.
أمّا بوكسر، فيُجسّد نمطًا آخر من وعي المقهور، هو “الوعي الزائف”. رغم قوّته الجسديّة وتفانيه في العمل، ظلّ يُردّد بشعورٍ مطلق: “سأعمل أكثر”، “نابليون دائمًا على حق”. لم يُشكّك لحظةً في القيادة، حتّى حين ساءت ظروفه، وظلّ يعتقد أنّ النظام يعمل لصالحه، إلى أن أُرسل إلى المسلخ وهو يظنّ أنّه ذاهب إلى المستشفى.
بهذا، توضّح الرواية ما قصده فريري بالجهالة المنظّمة التي تجعلُ المقهورَ يُشارك في صناعة قهره، بل ويدافع عنه.
المحور الثالث: التربية كأداة تحرّر
يدعو باولو فريري إلى “التعليم الحواري”، القائم على الاعتراف بإنسانيّة المتعلّم، ورفض العلاقة السلطويّة بين المعلّم والطالب. فبدل أن يكون أحدهما سيّدًا والآخر تابعًا، ينبغي أن يشتركا في اكتشافِ العالم وفهمِه معًا.
في هذا النموذج، تتحوّل التربية إلى فعلٍ سياسيٍّ وتحرّري، لأنّها تُمكّن الإنسان من التفكيرِ النّاقد، ومن مقاومةِ البُنى التي تسلبه إنسانيّته. فالاستبداد، في رأي فريري، لا يُجرّد المقهورَ من إنسانيّته فحسب، بل يُفسد حتى المستبد، ويجعل المقهور إذا تحرّر جسديًّا فقط، يُعيد إنتاج القمع على من هم أضعف منه، نتيجة الوعي الزائف.
في رواية مزرعة الحيوانات، تُجسّد شخصيّة ميجور العجوز (الخنزير الحكيم) البذرةَ الأولى لهذا الوعي التحرّري. كان حديثه عن الظلم والعدالة الشرارةَ التي أوقدت الثورة، لكن غياب مشروع تربويٍّ نقديٍّ جعل الثورة تُختطف لاحقًا على يد المستبدّين الجدد، وعلى رأسهم نابليون.
هكذا، انحرفت الثورة، وتحوّلت إلى نسخةٍ أكثر قمعًا ممّا سبق، لأنّ التربية لم تُواكب الحُلم بالحرّيّة.
أمّا الحمار بينجامين، فحين سُئل عن رأيه في الثورة، أجاب بجملةٍ غامضة:
“الحمير تعيش عمرًا طويلًا. ولا أحد منكم رأى حمارًا ميتًا من قبل.”
هل كان متشائمًا؟ أم عارفًا بالتاريخ؟ أم أنّه آثر الصمت بعدما رأى كثيرًا؟
في كلّ الأحوال، الحكمة دون فعل، لا تصنع تحرّرًا.
الخاتمة:
تُؤكّد المقارنة أنّ غياب التعليمِ النقدي لا يؤدّي إلى تحرّرٍ حقيقي، بل إلى استبدالِ جلّادٍ بجلّاد، دون تغييرٍ جوهريّ في البنيةِ القمعيّة. فالتربية ليست مجرّد وسيلةٍ لنقل المعرفة، بل هي أداةٌ لصنعِ الوعي أو تزييفه.
تُظهر مزرعة الحيوانات كيف أنّ الثورة، حين تُنفّذ بلا وعيٍ تحرّري، تفشل في تحقيقِ العدالة، وتُعيد إنتاج الاستبداد في شكلٍ جديد.
أمّا فريري، فيُقدّم نموذجًا تعليميًّا يغرسُ الحريّة من جذورها، ويُعلّم الإنسان المقهور أن ينظرَ إلى العالم كشيءٍ يمكن تغييره، لا فقط احتماله.
لذا، فإنّ التربية التي لا تُثيرُ التساؤل، تُفضي إلى السقوطِ في الفخّ من جديد.
كما قال فريري:
“لا يستطيع التعليم أن يكون محايدًا؛ إمّا أن يكون أداةً لتحرير الإنسان أو لتكريس اضطهاده.”
وفي مشهدٍ موجعٍ من الرواية، تتساءل الحيوانات:
“إذا كانت كلّ الحيوانات متساوية، فلماذا يعيش البعض في القصور، والبعض الآخر في الحظائر؟”
فهل يبدو هذا التساؤل غريبًا في عصر الذكاء الاصطناعي والمعلومات الفائضة؟
أم أنّ كثافة المعلومات دون وعيٍ نقدي تُبقينا ندور في غابةٍ من الضجيج، لا نرى فيها سوى خيوطِ ضوءٍ واهنة، لا تكشف شيئًا؟ سعيد ذياب سليم