
من سايغون الى غزة …حين سقطت الاسطورة مرتين.. معتصم صلاح
الشعب نيوز:-
هجوم التيت هو واحد من أهم وأعنف الهجمات العسكرية في حرب فيتنام، نفذته قوات جبهة التحرير الوطنية لفيتنام الجنوبية (الفيتكونغ) والجيش الفيتنامي الشمالي ضد القوات الأمريكية وحكومة فيتنام الجنوبية.
حدث هذا الهجوم في نهاية يناير عام 1968، تزامنًا مع عيد التيت، وهو العيد القومي الفيتنامي (رأس السنة القمرية الجديدة)، ما جعله يحمل طابع المفاجأة الكاملة.
بحلول عام 1967، كانت الولايات المتحدة تسيطر عسكريًا على أغلب مناطق الجنوب الفيتنامي، وتروّج في الإعلام الأمريكي لفكرة أن الحرب باتت قريبة من نهايتها. لكن الشمال الفيتنامي قرر قلب الموازين عبر هجوم مباغت ضخم يظهر أن الحرب لم تنتهِ بعد وأن الإرادة الفيتنامية لم تُكسر.
بدأ الهجوم فجر 30 يناير 1968 وشارك فيه اكثر من ثمانين الف مقاتل فيتنامي ,استهدف أكثر من مائة مدينة وبلدة في آن واحد ,بما فيها العاصمة سايغون .
شملت العمليات اقتحام السفارة الأمريكية في سايغون، وهو حدث صدم الرأي العام الأمريكي لأنه كسر الشعور بالأمان الأمريكي حتى في أكثر المواقع تحصينًا.
فرغم فشل الهجوم في تحقيق أهدافه الاستراتيجية وتكبد الفيتناميون الشماليون والفيتكونغ خسائر بشرية ضخمة ,ورغم فشلهم في اسقاط حكومة الجنوب أو إشعال انتفاضة شعبية عامة , الا أن الهجوم كان زلزالاً مدمراً للولايات المتحدة ,حيث فقد الشعب الامريكي الثقة بتصريحات حكومته حول “النصر القريب ” , وانقلب الرأي العام ضد الحرب , وأدى الى تراجع شعبية الرئيس جونسون الذي أعلن أنه لن يترشح لاعادة الانتخاب ,وأظهر أن التفوق الامريكي لا يعني الانتصار السياسي ,وأن الارادة الشعبية يمكن أن تهزم الجيوش التقليدية العظمى , وأصبح رمزاً عالمياً للمقاومة ضد الاحتلال وحرب التحرير الشعبية .
إن هجوم التيت وطوفان الاقصى, التاريخ يعيد نفسه في لحظات لا يمكن قياسها بالمدافع ولا بالصواريخ، بل بمدى التشابه القاتل بين انهيار الهيبة الأمريكية وسقوط الردع الإسرائيلي الذي صنع خلخلة في وعي الأمم وسقوط لهيبة الطغاة.
من هجوم التيت الفيتنامي عام 1968 إلى طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، تتكرر القصة ذاتها إمبراطورية تمتلك أحدث ما أنجزه العلم من تكنولوجيا القتل، تُهزم على أيدي مقاتلين حفاة لأنهم يمتلكون ما لا يمكن شراؤه — الإيمان بالحق.
ففي ذروة الغرور الأمريكي كشف هجوم التيت أن امريكا ليست خالدة ، ومع دفقات البروباغندا التي بشّرت بالنصر الحاسم في فيتنام، خرجت المقاومة الفيتنامية بهجوم مباغت شمل أكثر من مئة مدينة، في يوم يحتفل فيه الجميع برأس السنة القمرية .
خلال ساعات، سقطت صورة “القوة التي لا تُقهر”؛ فها هي السفارة الأمريكية في سايغون تُقتحم، وها هو الجندي الأمريكي يترنح وسط الأدغال وهو لا يدري من أين تأتيه الطلقات .
انتصرت فيتنام في الميدان الرمزي قبل أن تنتصر في الميدان العسكري، لأن هجوم التيت عام 1968 حرر الوعي الأمريكي من أكذوبة النصر الزائف، وأسقط الرئيس جونسون سياسيًا قبل أن يسقط عسكريًا , لتتحطم الاسطورة الامريكية ويكشف أن “الحرية ” التي بشرت بها واشنطن ليست سوى وجه جديد للاستعمار .
وبعد نصف قرن من هجوم التيت ، انفجر طوفان الأقصى ، في لحظة أخرى من الغرور الاستعماري الصهيوني ، خرجت غزة المحاصرة لتعيد المشهد على الطريقة الفلسطينية في السابع من أكتوبر , اخترقت المقاومة الفلسطينية جدار الحصار والسيطرة الاستخبارية تماماً كما اخترق الفيتناميون جدار الغرور الامريكي .
فلم يكن طوفان الأقصى مجرد عملية عسكرية، بل زلزالًا استراتيجيًا هزّ ُبنية “الدولة العبرية” من الداخل، وأسقط كل منظوماتها الأمنية والإعلامية والسياسية دفعة واحدة وكشف هشاشته التي اخفاها .
الكيان الذي كان يفاخر بأن عينه تراقب كل حجر في غزة، استيقظ على مقاتلين يعبرون الأسوار، ويَقهروا “جيشه الذي لا يُقهر” فيُقهر في عقر قواعده ، ليمَزق القناع عن آخر مشروع استعماري في التاريخ الحديث — المشروع الصهيوني الذي أراد أن يُقنع العالم أن الاحتلال يمكن أن يكون “دفاعًا عن النفس”.
فمن أدغال فيتنام الى أسوار غزة ,هجوم التيت لم يكن مجرد معركة عسكرية، بل انتفاضة ضد الوهم الأمريكي, ففي لحظة غرور كانت واشنطن تروّج لانتصارها الوشيك، فاستيقظ العالم على اقتحام السفارة الأمريكية في سايغون وسقوط المدن واحدة تلو الأخرى.
في المقابل، ظنّت إسرائيل أن غزة تحت السيطرة الكاملة، فكان السابع من أكتوبر زلزالًا عسكريًا وإعلاميًا دمّر بنيتها النفسية قبل أن يمسّ أمنها الميداني,
وكما كسرت التيت كبرياء واشنطن، حطّم طوفان الأقصى صورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وكشف أن كل القباب الحديدية لا تستطيع حماية كيانٍ أقيم على القهر والاغتصاب.
الفيتناميون أدركوا مبكرًا أن الحرب ليست في الميدان فحسب، بل في العقل الأمريكي؛ فأجبروا واشنطن على مواجهة كذبها أمام شعبها, واليوم يفعل الفلسطينيون الشيء ذاته ,يحررون الوعي العالمي من الرواية الصهيونية التي احتكرت الحقيقة لعقود .
فالمعارك لا تُربح في الخنادق فقط، بل في نشرات الأخبار والسوشل ميديا ، وفي مشهد طفل يرفع علمًا على أنقاض بيته في غزة بينما يقصفه الطغاة باسم “الدفاع عن الديمقراطية” ومشهد مُسن يتحدى حرب الابادة بأنه لن يخرج من غزة .
فيتنام كانت ضحية “الوصاية الأمريكية على الحرية”، كما أن فلسطين اليوم ضحية الوصاية الدولية على السلام, فعندما شرعت الولايات المتحدة لنفسها الاحتلال تحت ذريعة مكافحة الشيوعية , واسرائيل تفعل الامر نفسه بذريعة مكافحة الارهاب والدفاع عن الحضارة الغربية , فكلاهما سخر القانون الدولي الى سكين يستخدم ضد الضحية .
لكن هجوم التيت، وطوفان الأقصى بعده بنصف قرن، أعادا تعريف المفهوم الحقيقي للشرعية, حيث أن الشرعية ليست اعتراف الأمم المتحدة، بل اعتراف الشعوب بحقها في التحرر.
فرغم اخفاق هجوم التيت الا انه لم يكن كما قبله فقد أسقط هدف جونسون ووعده بالنصر الحاسم و بدأ الانسحاب الأمريكي من فيتنام عندما سقطت الهيبة العسكرية للإمبراطورية بتضحيات الفيتكونغ .
وما بعد السابع من أكتوبر لن يكون كما قبله, إسرائيل اليوم تعيش صراعًا داخليًا وجوديًا سينتهي بتفتيتها من الداخل ، بعد ان انكسرت صورة “جيشها الذي لا يقهر” في المنطقة ، وتهاوت منظوماتها الاستخبارية والسياسية أمام العالم فأصبحت كيان منبوذ بفعل جرائم الابادة التي ترتكبها لتحقق حلم النتن ياهو بالنصر المطلق الذي تحطم على صخرة مقاومة وصمود الشعب الفلسطيني .
إنه سقوط مزدوج للأسطورة الأمريكية والإسرائيلية — أسطورة القوة التي تملك كل شيء وتفقد الحق .
وحين قال “هو شي منه” قائد الثورة الفيتنامية قد يملكون الطائرات، لكننا نملك الزمن، لم يكن يعلم أن أبناء غزة سيكملون الجملة بعد عقود: قد يملكون القنابل، لكننا نملك الحقيقة, فمن سايغون الى غزة تتبدل الخرائط وتبقى قاعدة أن الاحتلال يمكن ان يرتكب الابادة والمجازر لكنه لا يستطيع أن يَنزع إرادة الشعوب بالتحرر.
فالتاريخ لا يرحم الجبناء، والحرية لا تُستجدى… بل تنتزع كما انتُزعت الهيبة الامريكية في سايغون وكما تَنتزعها الان مقاومة الشعب الفلسطيني .