
كتبت شيرين قسوس الوعي خوف مشترك!
الشعب نيوز:-
الوعي ليس مجرد تراكمٍ للمعرفة ولا اتساعٍ في دائرة المعلومات، بل هو لحظة انكشاف وجودي يرى فيها الإنسان ذاته والعالم بلا وسائط مطمئنة. إنّه انتقال من العيش داخل المعنى الجاهز إلى الوقوف عاريًا أمام السؤال. ولهذا بالضبط يصبح الوعي مصدر قلق، لا وعد خلاص. فالإنسان لا يخاف مما يجهله فقط، بل مما يعرفه حين يهدد استقراره الداخلي ويقوّض الصورة التي بنى عليها وجوده.
خوف الفرد من الوعي ينبع من كونه فعل نزعٍ لا فعل إضافة. الوعي لا يمنح أجوبة بقدر ما يسحب المسلّمات، ولا يوسّع الطمأنينة بل يضيّقها. حين يعي الإنسان، يكتشف أن كثيرًا مما آمن به لم يختره، وأن جزءًا من حياته كان امتثالًا لا قرارًا. هذه المواجهة تولّد اغترابًا: اغترابًا عن الذات السابقة، وعن الجماعة، وعن اللغة السائدة التي تبرّر الواقع. لذلك يهرب الإنسان من الوعي كما يهرب من مرآة تُظهر ما لا يريد رؤيته. الجهل هنا ليس نقصًا، بل دفاع نفسي، وآلية بقاء داخل عالم يطالب بالطاعة أكثر مما يطالب بالفهم.
لكن ما هو فردي يتحوّل إلى سياسي حين يصبح الوعي جماعيًا. فالحكومات لا تخشى المعرفة بحد ذاتها، بل تخشى الوعي الذي يحوّل المعرفة إلى سؤال أخلاقي. الوعي الشعبي لا يهدد السلطة لأنه يعارضها فقط، بل لأنه يعيد تعريفها. فحين يعي الناس، لا يعود الحكم قدرًا، ولا القوانين مسلّمات، ولا الخطاب حقيقة نهائية. الوعي يكشف أن السلطة بناء بشري، قابل للنقد، لا ظلًا إلهيًا ولا ضرورة تاريخية. ومن هنا يصبح المواطن الواعي خطرًا وجوديًا على أنظمة تقوم على الخضوع أكثر مما تقوم على الرضا.
لهذا لا تُحارب السلطة الوعي بالقمع المباشر فقط، بل بالاحتواء والتفريغ. يُسمح بالكلام ما دام بلا أثر، ويُشجَّع النقاش ما دام لا يلامس الجذور. تُصنَع وفرة من المعلومات لتُغرق الحقيقة، ويُمنح الناس هامشًا من التعبير ليظنّوا أنهم أحرار، بينما يبقى التفكير محصورًا داخل حدود مرسومة سلفًا. أخطر أشكال القمع ليس منع الوعي، بل جعله مستحيلًا دون أن يبدو ممنوعًا.
المفارقة أن خوف السلطة من الوعي يتغذّى على خوف الفرد منه. فحين يختار الإنسان الراحة بدل الحقيقة، يصبح شريكًا صامتًا في إعادة إنتاج القيد. وهكذا يتكوّن توازن هش: سلطة تخشى شعبًا واعيًا، وشعب يخشى وعيه الخاص. في هذا التواطؤ غير المعلن، يتحوّل الوجود إلى عادة، والحياة إلى تكرار، والإنسان إلى كائن يتأقلم بدل أن يختار.
ومع ذلك، يبقى الوعي حدثًا لا يمكن إلغاؤه بالكامل. فهو لا يأتي دائمًا كصرخة جماعية، بل كقلق فردي، كسؤال صغير يتسلل في لحظة صدق، كشرخ في اليقين. قد يتأخر، وقد يُقمع، وقد يُشوَّه، لكنه حين يحدث، يغيّر طبيعة الإنسان نفسها. فالإنسان بعد الوعي ليس هو الإنسان قبله، حتى وإن عاد إلى الصمت.
في النهاية، الوعي ليس طريق خلاص مضمون، بل مقام أخلاقي. إنه اختيار أن ترى، حتى لو كان الثمن فقدان الطمأنينة. اختيار أن تتحمّل ثقل الحرية بدل خفة الجهل. ولهذا سيظل الوعي مخيفًا: لأنه لا يمنح وعدًا بالسعادة، بل يفرض مسؤولية الوجود. وبين إنسان يخشى أن يعرف، وسلطة تخشى أن يُعرف، يقف الوعي كفعل مقاومة صامتة، لا يُغيّر العالم فورًا، لكنه يغيّر معنى العيش فيه!