بناء المفارقة في غرائبية مجدي دعيبس في “ألفة الوحدة”

147
الشعب نيوز:-

رؤية وداد أبوشنب

المجموعة القصصية الثالثة للصديق مجدي دعيبس عرفنا صاحبها روائيا وقاصا يكتب في الأدب الواقعي: تاريخيا (كما في الوزر المالح وأجراس القبار ومسرحية الدهليز على أقرب تقدير)، أو اتكاء على واقعنا المعيش (كما في حكايا الدرج وبيادق الضالين وليل طويل.. حياة قصيرة)، نجده ينتقل إلى الغرائبية الفجة بمفارقتها العميقة في مجموعته القصصية الثالثة “أُلْفة الوحدة”، مما جعلها تُصنف ضمن الأدب الغرائبي أو العجائبي (الفنتازيا)، مع أنه يتبنى الغرائبية (نسبيا) بشكل أو بآخر في قصصه دون الروايات.. مما يجعلنا نذكر أن بيادق الضالين على سبيل المثال -على واقعيتها- إلا أنها احتوت ملامح غرائبية تجلّت في المفارقة بالدرجة الأولى. كما توجد ملامح القصة الاستشرافية في ليل طويل.. حياة قصيرة!

“ألفة الوحدة” مجموعة قصصية مؤلفة من أربع وأربعين قصة، ثمان وعشرون منها غرائبية، وستَ عشرة منها من الأدب الواقعي نحو: السيدة بالنظارة السوداء (سيدة غامضة أثارت فضول صاحب محل الخضار، اتضح أنها تتعرض للضرب اليومي من زوجها، إلى أن اختفت من الحي) و”البحث عن نهاية” (شخص ذهب إلى مقابلة عمل ثم راح يسأل عن امرأة تم طردها من القرية، ولم تعجبه كل الحكايات التي رويت له عنها فغادر قريته بحثا عن نهاية تعجبه) وعن “الحب والصمت” (الحب الموقوف الذي مُنع طويلا لكن صاحبيه التقيا بعد السبعين.. هكذا قيل)) و”صندوق الذاكرة” و”ليلة خسوف القمر” التي تبقى في حيز الواقعية رغم بنائها على أسطورة الحوت الذي ابتلع القمر و”بيركهارت مرة أخرى” (إبراهيم بن عبدالله) (مع استحضار التاريخ تبقى القصة من الأدب الواقعي) و”أزمة مرورية” و”أحلام منتهية الصلاحية” (حلم الطفلة بالطيران والاقتداء بالحمائم) و”من ذاكرة الماء” تلك القصة التي صرخ صداها من الواقع في حادثة شهداء البحر الميت (أطفال مدرسة فيكتوريا) و.. “وألفة الوحدة” القصة العنوان التي أستغرب اختيارها عنوانا للمجموعة التي تعد غرائبية فيما كانت القصة نفسُها واقعيةً جدا وممكنةً الحدوث جدا ما لم تحدث فعلا!!

“ألفة الوحدة” العنوان يشي بغرائبية المضمون ويُتَوَقع منه انفجار معنوي سينتج عن اتحاد نقيضين: الألفة والوحدة، والغرائبية بحد ذاتها تنبثق من الواقع متبنية الغريب أو الفنتازيا من أجل تحقيق هدف ما في الواقع المعيش، أي بحثا عن الألفة؛ كانت “ألفة الوحدة” قصة عادية لرجل عادي ينشد الراحة والخلود كعادته إلى النوم، إلى أن حدثت المفارقة التي صدمت المتلقي وخيَّبت أفق انتظاره: ابنة ذلك الرجل العادي تم إلقاء القبض عليها أمام ناظريه مع جملة المراهقين المستهترين الذين يتناولون المخدرات!! مسار القصة عادي واقعي على خلاف العنوان المبهر..

إن القصة الواقعية لدى دعيبس تصوِّر وجها من وجوه الواقع بقضاياه مثل قضايا المرأة على اختلافها وقضايا المهمشين في المجتمع والقضايا الاجتماعية برمتها، فهي تعرض الواقع الذي يلامس المتلقي وتجعله يشعر بالوضع المطروح في القصة ويتفاعل معه ومع الشخصيات على استراتيجية تأويل متشابهة أو متقاربة مهما كانت طبقة القارئ أو أيديولوجيته ومهما كانت المفارقة كما في قصة “عن الحب والصمت” حيث مجموعة من النهايات المتوقَعة التي عرضها القاص مجدي دعيبس والتي أُرجِّح أن تكون كفة نهاية رحيل المرأة السبيعينية مع حبيبها هي الأثقل، فيما تدعو القصة الغرائبية التي تنحو منحى القصة الواقعية في البداية وتصفع بمفارقتها العميقة متلقيها فتجعلهم يشطحون بالبحث والتأويل وكشف المسكوت عنه حسبما يؤرق كلَّ واحد منهم وفقا لمرجعياتهم المختلفة. إن أسلوب السخرية أو التهكم المتضمَن في مفارقات القصص الغرائبية لدى دعيبس يكشف عن مرارة الواقع عبر المشهد القصصي ففي “مشهد مخيف” حادثة الطالبة التي تغوّلت فيها حالة نفسية بعد شهر من مطاردة كلب -لها- لم يمسسها، فسُعرت وطفقت تعضّ كلّ من اعتاد إزعاجها!! أما في قصة “تمثال من الجص”، فرفضت المرأة نفسَها الساقطةَ التي أرغمها المجتمع وقلة الحال والحيلة عليها إلى أن تحجّرت وتهشّمت، كأنما هي رسالة بأن المجتمع لا يرحم مع التوبة أو دونها!! وفي قصة “العتبة” عازف الكمان الذي نجح بعد معاناة طويلة في ذلك الليل البارد في صنع قلاية بندورة شهية، لكنه كان يصدم بعتبة بيته ترتفع في كل مرة يقضي فيها لوازم القلاية، إلى أن سُدَّت تماما بعد حصوله على فنجان السكر، مفارقة صادمة أن يسد أمامك المنفذ الوحيد الذي لم تتوقع انسداده في وجهك، لا سيما بعد حصولك على كل ما رجوته في تلك اللحظة، والمفارقة الأكبر هو ارتفاع صوت الربابة ذات الوتر المقطوع من خلف العتبة، ذلك الصوت الحزين الذي تعالى مع ارتقاء روح العازف!!

تصوير مشهد غرائبي خارج عن الاعتيادي في سياق واقعي اعتيادي، بناء النص على مفارقة تنطلق من واقعه لترسو على نهاية أو فكرة خارجة عن الطبيعي أو المألوف. والجدير بالذكر أن جزءا من قصة “العتبة” مثّل إحدى عتبات المجموعة القصصية والمتمثلة في نص الغلاف الخلفي: العتبة الأخيرة، اختيار موفق جدا!

في “فانتازيا” ذلك الفنان الذي رسم ساخرا صورة زوجته بشاربين في لوحةٍ اقتداء بالفنان الفرنسي دوشامب، وفي لوحة أخرى امرأة بساعدين مفتولين وفي أخرى.. إلى أن تجمعت الرؤى كبازل (أحجية) لتشكل الصورة الكاملة لتلك الزوجة كما يراها وكما أراها للمتلقي، فتشكّلت ذاتَ مفارقةٍ بصورة شاب بشاربين ولحية خفيفة وساقين مكشوفتين وعضلات مفتولة نائمةً إلى جواره!!! إنها غرائبية اللامنطق واللاطبيعي المتسربة من الواقع من أجل قراءته بطرق مختلفة.

يستحضر مجدي دعيبس في مجموعته هذه شخصيات من الواقع، وأماكن من الواقع أيضا لصناعة الألفة بين النص ومتلقيه، فيسدعي في “المقهى الأدبي” شخصيات مبدعة، نحو نجيب محفوظ بواقعيته وغابرييل غارسيا ماركيز بواقعيته السحرية، في قصة غرائبية تقطع نهايتُها تشبيه الشخصين الموجودين خلف البطل بالروائيين العالميين بإثبات أنهما هما عينهما فعلا!!!

في قصة السبعيني يراوغ مجدي دعيبس فيستحضر معطف دوستويفكي في نص غرائبي كنصوص كافكا، ويستشهد بهيمنجواي حيث صرح بفكرة انتحاره ورفَضَها بطريقة ساخرة بأن أطلق النار على الرجل الذي ساعده..، فالنهايات مختلفة مهما تشابهت المعطيات، فليس من الأكيد أن يُسقط المرء كل ما يعرفه على نفسه، بل هناك مفارقات تقلب موازين الحياة..

سؤال لا بد من حضوره أثناء مطالعة غرائبية مجدي دعيبس “ألفة الوحدة”، هو: ما الذي يجعل قاصا مثقفا جدا كدعيبس، يراوغ باستحضار دوستويفسكي في الوقت الذي يتوقع المتلقي حضور “نيكولاي غوغول” ومعطفِه الأثير؟؟ وما الذي يجعل روائيين كمحفوظ الواقعي وكماركيز الواقعي السحري يحضران ويُقصى “فرانز كافكا” الغرائبي ومسخُه على سبيل التمثيل لا سيما أن التحوّل موجود في قصص مجدي (في تمثال الجص ومشهد مخيف وفانتازيا وشجرة الزنزلخت و..) كما وُجد في مسخ كافكا من قبل عندما استفاق البطل ووجد نفسه متحوِّلا إلى حشرة؟ هذه المراوغة النصية تسرب مسكوتا عنه عبر ثغرات المعلن ليملأها القارئ الحصيف، بينما يستقبلها القارئ المتواضع كما هي.

إضافة إلى ما ورد آنفا، هناك في المجموعة أصداء صارخة لنصوص (لأعمال) سابقة، كما جاء في فانتازيا التصريح بلوحة الفنان مارسيل دوشامب: الموناليزا بشاربين! حيث اقتبس مجدي الفكرة وراح يبدع في إضفاء ملامح رجولية على لوحات زوجته وبنى عليها مفارقة تحولها إلى رجل، وكما جاء في “شجرة الكينا والغربان وأشياء أخرى”، تصوير الغربان وهي تهاجم العمال كصورة الطيور في فيلم سينمائي لألفرد هيشكوك وهي تهاجم سكان المنطقة! كما أنه في قصة الطوفان صدى لطوفان النبي نوح مع عكس الصور، نجاة الفاسدين في كل مرة!! وفي “قصة رجل نائم” نجده يبني مفارقته على رواية “موت معلن” لماركيز، فيستيقظ البطل بعد نوم متكرر ومستمر للانطلاق في البحث عن سانتياغو نصار لإنقاذه من القتل، مفارقة غرائبية بُنيت من واقع أليم لبناء واقع ممكن أقل ألما أو بالأحرى من أجل واقع قادم جميل. وفي قصة “حرائق القرون الوسطى” أثر أو صدى لـ”مطرقة الساحرات” لهنريش كريمر في تلك العصور.. حيث تم إعدام المجنون أو المشعوذ حرقا كعادتهم آنذاك في حرق المشعوذين!!

اشتغل القاص في هذه المجموعة في قصتين على الأقل “ساعة الحائط” و”مرآة غريبة” على ميوعة الزمن ولعبة العمر، فالسيدة السبعينية التي أخفت ساعة الحائط لعقود زمنية أدركت في لحظة إهمال تسرب العمر سريعا وأن للزمن حقا علينا مهما حاولنا إغفاله، بينما في “مرآة غريبة” التي أرعبت عدة سيدات بإظهار التجاعيد فجأة على وجوههن، غابت المرآة عن مالكتها الأولى فترة بفعل تخلص الزوج منها، ثم عادت لأن حقيقة العمر لا عبث بها!!

هكذا تبدو غرائبية دعيبس بخواتيمها ذات المفارقة التهكمية غير المجانية، فهي رغم ظهورها في قالب الخيال اللاواقعي واللامنطقي بعرض تهكمي إلا أن أثرها على الواقع عميق جدا ومقصود جدا، لذا أرجح هنا تقريب مصطلح sarcasm عن مصطلح ironie لعدم مجانية المفهوم، ويتجلى ذلك في معظم قصص المجموعة وأمثِّل عن ذلك بقصتي “وقاحة” و”شجرة الزنزلخت”، ففي وقاحة استحال الصهر الوقح في آخر سطرين من القصة التي تبدو واقعية إلى هيكل عظمي تطايرت ذراته مع الريح، لأنه لا بد من حد جذري لكل الوقحين في هذا الواقع حتى وإن كانت نظرةً تخفيهم عن الوجود. أما في شجرة الزنزلخت، فقد كان من الضروري تعويضها كلما اقتُلِعت بإحدى طالبات المدرسة المخلصات القديمات واللائي تتبرعن بأنفسهن فتتجذرن وتتشجّرن وتتفرعن مكان الشجرة المغدورة لتفيِّء بنات المدرسة..

في هذه المجموعة جوانب كثيرة جدا أهل لوضع الأصبع عليها، نحو وجود المرأة القوي والمتكرر مثل تمثال الجص وصانع التوابيت ومرآة غريبة ومشهد مخيف وفانتازيا والمرأة المجنونة وشجرة الزنزلخت وساعة الحائط و… في الوقت الذي كان حضور الرجل متراجعا سلبيا قليل الفاعلية..

وهناك أيضا استراتيجيتا النوم والموت، بمعنى الموت الأكبر والموت الأصغر، حيث هيمنت هذه الاستراتيجية (سيكولوجيا النوم أو فلسفة الموت) على غالبية القصص من بداية الولد الأعرج الذي وجد ميتا بعد سنوات من فقدانه إلى حرائق القرون الوسطى حيث إعدام الرجل المشعوذ..

وفي الختام لا بد لي من الإشارة إلى أن قصص المجموعة كتبت بطريقة القصة القصيرة جدا، ولولا الوصف الذي هو سمة القاص مجدي دعيبس الدقيق جدا في سرده كما في وصفه لكانت المجموعة ق ق ج نحو ما أورده بين ثنايا هذا الكتاب بعنوان “نقوش على نوافذ محطمة” والذي تحتوي على مجموعة من ال ق ق ج وعددها اثنتا عشرة قصة قصيرة جدا.

قد يعجبك ايضا