نساء غزة و الحرب..سعيد ذياب سليم

735
الشعب نيوز:-

الرجال يذهبون للحرب ، يقتتلون يواجهون الموت ينظرون في عينيه بتحد و شجاعة، يراقصونه دون خوف وإذا وقع القضاء و أنجزوا ما عليهم يستلقون على جنوبهم في راحة أبدية تاركين وراءهم أما ، أختا ،بنتا أو زوجة يجرفهن نهر المعاناة .
قبل الحرب كانت لهن غرفهن الخاصة ، ملابس حرير ملونة، مرايا أسرارهن ، صناديق أحلامهن وربما كتابا لم تتم قراءته ، وكتفا تسند رأسها عليه إذا أظلمت الدنيا.
قبل الحرب تحمل الجدة مذياعها الصغير تبحث بين المحطات عن خبر أو حكاية أو أغنية طال اشتياقها لسماعها، وتجلس الأم تعبث في مطبخها مقترحة وصفة جديدة تبحث عن مكوناتها في الجوارير بين الزعتر و القرنفل و حب الهيل و ماء الورد!
وتجلس الصبيّة بين كتبها المدرسية ، تفتح صفحتها على منصة “فيسبوك” تنشر صورة لشاطئ غزة تلاعبه الأمواج و أطفالا يلعبون بالرمل و مراكب في البحر و نوارس بيض .
لم تكن الحرب عاصفة مفاجئة ! فهي في أثرهم دائما ، تهجم كذئاب وحشية تقطع حصتها من لحمهم ثم تغادر، تخطف أحب الخلق ثم تغادر، ترقص شياطين الحرب في ميادين غزة برها و جوها و بحرها تطلق بواريدها تصطاد أجمل الغزلان ثم تغادر!
أغلقوا عليها الأرض و السماء وصادروا على حدودها الأمل ، فماذا صنعت غزة الأم الصابرة ؟ فتحت لأبنائها شرايينها يسيرون في ظلمتها يجلبون الحرية و يفسحون طريقا للأمل.
كانت هناك رياضا للأطفال ومدارس و جامعات و مشافي تقصدها الأمهات و الصبايا متناسين وقوعهن في مصيدة غزة، صرن معلمات و طبيبات و كتبن الشعر و عشقن البحر و أخفين بالصبر مر الحياة ، ولدن الأبطال و أرضعنهن حب الأرض و الشهادة.
ثم جاءت الحرب الأخيرة ، لملمت النساء أوراقهن الهامة ، عقد الزواج و شهادات ميلاد و بطاقات الشخصية وبعض المال – الذي لم يستطع شراء شيء- جمعن أبناءهنّ حولهن و بدأن الانتظار .
في الليل حامت الطائرات فوقهن كطيور خرافية ، يلقين الموت صاخبا مجنونا، اهتزت أساسات البيت و قرقعت سقوف المخيم و سقط بعضها فوق بعض ، دفنت تحتها الرجال و النساء و الأطفال ،و التهبت حجارة البيت !
نفرن إلى الأزقة مسرعات يحملن الصغير و يحثّون الكبير نسين حقائبهن و قوت أولادهن، كان الليل طويلا مظلما لكن الآه أطول، و الحزن يعتصر قلوبهن و الدهشة الخرساء تلجم الألسن وهن يتفقدن من مات أو جُرح أو فُقد و من بُترت أطرافه ! وجع و عويل و كلمات بلا معنى وهن ينادين أسماء أبنائهن .
إن لم يكنّ تحت الردم ؛ ماذا تصنع نساء غزة وقت الحرب ؟
بعد أن تودع ابنها الشهيد ذا السبع سنين هل تحضن من تبقى من أبنائها وتستمر في دور الأمومة ..كالعادة؟
هل تجلس على عتبة البيت تردد ترويدتها الحزينة؟ وهل تبقى من البيت -إذا تهدم- عتبته ؟
وتلك العجوز التي ودعت وحيدها الشاب هل تسكت دمعتها وهي تغني له أغاني العرس و الحناء و تدعوا أبناء عمه يسندونه!
ثم يبدأن رحلة الهرب و البحث عن الأمان بين مراكز الإيواء مدارس “الأونروا” و المستشفيات و مراكز الصليب و الهلال الأحمر و اللجان الدولية التي لم تستطع حماية نفسها أمام غطرسة إسرائيل و دعم أمريكا.
تسير قوافل المهجّرين في خليط من الرجال و النساء و الأطفال من الشمال إلى الجنوب في طرق حفّـرتها القذائف وانتثرت حولها أشلاء الشهداء تهاجمها الذباب و تنهشها الكلاب. تصعقهن رائحة الموت و يرعبهن صمت الموتى، يغمضن أعينهن ويسرن متعثرات ، احداهن تحمل رضيعا و أخرى تقود ضريرا وثالثة مثقلة بشهرها التاسع حتى إذا وصلوا دورية الجيش الإسرائيلي أوقفوهن و اختطفوا من بينهن رجالا و نساء يطعموا بهم وحش المعتقل وتجار الأعضاء البشرية .
حتى إذا وصلت إحداهن إلى خيمة من خيام اللاجئين التي أقيمت بشكل خجول لا تقي بردا و لا مطرا و تدخل مجاري الماء من طرف إلى آخر ، فرشت ببساط خفيف يسمح للحجارة الصغيرة أن تنغرس في البدن و تترك لها بصمات ويدخل برد الأرض مسامات الجسد يهتز و تهاجمه الحمى ،يهرب النوم و تحدق العيون في الظلام وتمر الثواني بطيئة تزحف على القلب ” كالبزاقة” وتنادي الغريبة أحبابها تصفّهم أمامها و تسألهم عن أحوالهم من مات و من بقي وهل رأيتم الأولاد و الزوج و البُنية؟
إنهن كالبذار التي يحملها الريح فإذا حطت على أرض غرست جذرها في التراب و أورقت و أنبتت سنابل ، تبني موقدها و تشعل نارا تطعمها أوراقا جافة و أشواكا و أعوادا صغيرة، تصنع رغيفا و تغمس ملح الأرض و تشرب ماء البحر و تنتظر سلاما بعيدا
إنهن محاربات يصارعن الجوع و فقر الحال و المرض و يتلون سورة يوسف و يدعون أن يأتي فرج الله و يعيدهم إلى منازلهم يقيمون حيطانها ويزرعون زيتونا و نخلا وسنابل و يعلّمون أبناءهم عشق الأرض ليحصدو النصر في الموسم القادم.
سعيد ذياب سليم

قد يعجبك ايضا