الأسير أمجد عواد كتاباتي لوالدتي مفتاح الحرية٠٠٠

146
الشعب نيوز:-

 

حاوره
سليم النجار- غصون غانم٠٠٠

المقدمة
لم تكن كتابة الأسير أمجد عوّاد عن والدته جافّة بل هي اشتعال ذهني وشوق بتركيبات سردية وسفريات متخيَّلة في أعماق الانسان المتواري خلف سنارة التاريخ القامع لآدميتي، أو الإنسان المترامي في دوامة الزنزانة٠
مع أنّ الأسير لسنوات عديدة في المعتقل في المعتقل الإسرائيلي اعتاد أنْ يجمع كتبا غامضة ومطبوعات منسية، ورفات حيوات سابقة، وافترض أنَّ هذا يجعله دائما في حالة من حالات الاحتشاد الكثيف، يمكن من خلاله أنْ تنفذ صورة والدته إلى شاطئ الوعي، وما أنْ نبتت البذرة، فإنّ على العقل والمعرفة والثقافة أنْ تبدأ في رعايتها لتنمو، فهو لا يستطيع أنْ يخلق عالما بالفطرة، لكنّ تجربة الاعتقال صقلت رؤيته للحياة٠
يكتب أمجد عوّاد كما لو أنّه يرعى أشجارا أو زهورا بحبّ وصبر وسَكينة٠ ينتقل من نصٍّ إلى آخر مانحا نفسه حرية الخروج من زنزانته لصناعة حدائق متعدِّدة وغابات تحتضنه مع والدته٠ لا يحبّ ازعاجات حياة الزنزانة اليومية٠
صرخ عوّاد، ما خلفت من عذاب!
من خضرة الكفاف
والخلود لونه…
سماؤه السّراب… والرصاص حين لا رصاص… أرض زنزانته… رمليّة سكرى يذوب مع ملح سنوات زنزانته… تدور الأيام… فدار لوالدته من خلف القضبان وكان نصّه لها مفتاح الحرية..
وحوارنا معه بداية الأمل الذي سطّره نصّاً لوالدته:

الأسير أمجد عواد
الأسير عواد يقضي حكماً بالسّجن المؤبّد المكرّر خمس مرّات، وكان ما يزال طالباً في جامعة القدس المفتوحة عند اعتقاله.
ذات خدعةٍ محكمة، تمكّنتُ بعد سنوات عجاف من أنْ أنتزع فرصةً لالتقاط صورة لي ولأمّي في أحد السجون الصهيونية، ولم يكن يفصلني عنها سوى بابٍ فولاذي عجوز وثلاثة أمتارٍ بدت وكأنّها كوناً بأسره، كان هذا منذ أعوامٍ طوال، لكنّي أذكر تفاصيل تلك اللحظات كما لو أنّها بالأمس القريب.

أذكُر..
أنّ المكان ضاق لذلك الحدّ الذي كان يسعني وأمّي فقط، والصمت سادَ، كأنَّ معركةً حطّت رحالها قبل قليل، فلا صوت يعلو فوق صوت الصمت في حضرة الوطن السائر باتجاهي، أمّاه أوَتعلمين أنّي تُهت لحظتها، ضجّت أُذناي من نبض القلب الذي ازداد قرعاً كلّما اقتربت، تاهت خطاي، ذاب الفولاذ حول معصمي، وغدي طوق ياسمين، غاص الإسمنت من حولي، تفكّك وانكسر المكان على المكان حتّى جثا شظاه راكعاً في حضرتك.

أُمّاه..
غادرتني حينها الصّفات جميعها، صمتي وتلك النظرات القاسيات في عيني وانعقاد الحاجبين فوقهما، وتحفُّزي وانتباهي، غادرني كلّ شيء، وكأنّني غيري، ووجدتُني طفلاً يُغريه فضول الظّلّ المقترب، تُعاندني الجهات، قدماي تُمسكان بالأرض، ثَقُلَ وزني، ارتبك فيَّ كُلُّ شيء، تُهت في فوضاي، لم أعُد أستطيع مشياً، فاستحالت بضعُ بلاطاتٍ أمامي لأكثر الطرق اشتباكاً ووعُورة، تعثّرت في عتمة الدّرب.

أمّاه..
ها أنت هنا الآن حقيقةً لا صوت أسيرٍ مهرّب، ولا انعكاس يجرحه الزجاج، ولَكَم خشيتُ أنْ يَنتزع صوتُ أصفادي من اللحظة جماليّتَها، وكم تمنّيت لو تذكّرت قبلها أنْ أُبعثرني قليلاً، كأنْ أنسى الزرّ الثالث في قميصي مفتوحاً، أو أنْ أُبعثر شعري، أو أترك لأحد جيوبي حريّة التسوّل خارجاً، أو أنْ أفتعل عراكاً مع أحد الرفاق أُضربُ فيهِ فأفوز بكدمةٍ تحتَ عيني اليُسرى، لا لشيءٍ سوى أن توبّخني أمّي وتعود لممارسة مهمّة ترتيبي كما اعتادت.

أمّاه..
سقط الزمان سريعاً على المكان، فغَدت اللحظات عُمراً يمرُّ بجانبي لأراه، فهُنا تُعدّينَ لي الطعام، وهناك تعلميني الحياة، وهُنا قريباً تتلينَ عليَّ لاءاتِكِ الكثيرةَ، وبعيداً عن كومة الصدأ أراكِ تخيطينَ شيئاً، ويساراً قليلاً أراني أُعدّ لكذبة ما وأراك لم تصدّقيها فتنظرين إلى السماء وتبتسمين.

أمّاه..
ما كُنتُ أظنُّ أنَّ التقاط صورةٍ لأمٍ وابنها سيستحيل امتحاناً لقدرة قلبي على الاحتمال، جنَّ جُنونه، هاجت دقّاته، يا قلبُ أستحلفك ألّا تُفقدني الوعي، يا قلبُ أحتاج عينيّ مفتوحتين لأرى حُلماً من لحمٍ ودم يقترب لاحتضاني، أحتاج أنفاً أشتمُّ به عبق الياسمين المشبّع بالتاريخ بالتراب بالزمن الذي تركتُ نصفي مُخبّئاً فيه، أحتاج يديّ لألمس أُمّاً بحجم الدُّنيا، أحتاجُني يا قلبُ حيّاً لدقيقتين وبعدها أعلن برأس الصفحة الأولى موتي وموتك يا قلب وأكتب:
كانَ اللقاء ستّينَ ثانيةً لا أكثر إلّا أنّه احتضن أمّه، علماً بأنَّ سَجّانه حين اكتشف خدعته ألقى بالصورة في سلّة المهملات بعد أنْ تأكّد من دقّة تمزيقِها.

قد يعجبك ايضا