العيش وسط الأسئلة: كيف نعلّم أبناءنا التعايش مع الشك دون خوف؟سعيد ذياب سليم

الشعب نيوز:-

 

كان يراقب المعلم وهو يكتب على السبورة معادلة من الدرجة الثانية، مثالًا يشرح فيه طريقة إيجاد جذريها، لكن كلّ تفكيره ظل مشدودًا إلى الرسالة النصية التي أرسلتها له أمه. لا تزال عباراتها تتردد في ذهنه كشريطٍ إخباري لا يكفّ عن الدوران:

“الشعور بالشك وعدم اليقين هو جزء من كونك شابًا. لا تقلق كثيرًا يا عزيزي! حتى البالغون يعيشون مع الشك والندم: كل ما يمكنك فعله هو أن تعيش فحسب!”

 

بهذه الكلمات البسيطة، المُفعمة بالحكمة والحنان، لخّصت أمه رسالتها إليه، وهو يخوض غمار مرحلة الشباب بأسئلته الوجودية وحيرته المتكررة. سمع صوت المعلم كأنه صدى في قاع بئر:
– “أنت، هل تفضل أن تحل المعادلة بنفسك؟”

انتبه فجأة، هزّ رأسه معتذرًا، ثم أعاد بصره إلى السبورة دون أن يرى منها شيئًا. كان ذهنه قد غادر الفصل منذ وصول تلك الرسالة.

لم تكن المعادلة على السبورة وحدها ما يحاول حلّه، بل كانت حياته كلها تبدو كمعادلة مبهمة، ورموز لم يتعلم فكّها بعد.

لماذا يصبح الشكّ رفيقًا دائمًا للشباب؟
وهل هو عائقٌ يجب تجاوزه، أم معبرٌ لا بدّ من سلوكه نحو النضج؟

مرحلة الشباب ليست مجرّد تحوّلٍ بيولوجي، بل عبورٌ قلق في دروب الأسئلة الكبرى. في هذه الرحلة، تصطدم الأحلام بالواقع، وتتحوّل الحرية إلى مسؤولية، وتغدو العواقب دروسًا لا تُنسى. هناك يتسلّل السؤال الوجودي: “من أنا؟ وما الغاية؟” ليصير ثقلًا يخشاه كثيرون.

لكن ما يغيب عن الأذهان أحيانًا، هو أن الشكّ ليس ضعفًا، بل دليل على عقلٍ ما زال ينقّب عن المعنى، وقلبٍ لم يخذله حدسه بعد.

فلا تخشَ المضيّ وسط زوابع الأسئلة، فالشكّ هو البذرة الأولى للحكمة.

الشك كعلامة صحية في مرحلة النضج:

حين يبدأ الطفل، ولدًا أو بنتًا، بالعبور إلى عتبة الفتوة، يعلن الجسد ثورته. تظهر علامات لم يألفها من قبل، ومشاعر لم يختبرها، وملامح جديدة على الصوت والجلد والمزاج. فيسأل نفسه: هل ما يحدث طبيعي؟ أم أنه عارض غامض؟

يتسلل القلق، لا من الألم، بل من الجهل. لا يدري بعد أن ما يمر به هو بداية البلوغ، بوابة العبور إلى عالم الراشدين. فيبدأ بالتنصت إلى ما يدور حوله، يلتقط إشارات وهمسات عن تغيرات مشابهة، فتنفتح أبواب الأسئلة: من أنا الآن؟ ما معنى أن أكون ولدًا أو بنتًا في طور التحول؟ وما دوري في هذا العالم؟

وهنا يظهر الشك، لا كحالة طارئة، بل كبداية لليقظة. فالشكّ يحرّك الأسئلة، والأسئلة توقظ الوعي، والوعي يفتح الطريق نحو الاستقلال عن الطفولة، نحو اكتشاف الذات وتأسيس تفكير نقدي يفهم الحياة والنفس والعالم.

لكن التحول لا يقتصر على الجسد. فهناك ساحات جديدة يخوضها الشاب لأول مرة: ساحة المعرفة التي تطالبه أن يفكر وحده، ليصل إلى قناعاته، وساحة اللعب التي لم تعد مجرد جري وضحك، بل صارت تنافسًا وفرضًا للوجود، وساحة الحب، حيث يكفي أن تلتقي نظراته بنظرات من يحب حتى يرتبك عالمه كله، ويغمره السؤال: هل أنا كافٍ؟ هل أنا محبوب؟ كيف أكسب قلبًا لا أعرف إن كان يبادلني الشعور؟

في تلك اللحظة، يقف الفتى أمام المرآة يتفقد أول شعيرات خفيفة بدأت ترسم شاربًا فوق شفته العليا، وتحرص الفتاة على إبراز ملامح أنوثتها الناشئة. كلٌّ منهما يتصالح مع ما فيه، ويكتشف فيه ما يدعوه للفخر لا للخجل. وكأن الشك الذي راودهما في البدء لم يكن سوى مرآة جديدة لرؤية الذات بصدق وامتنان.
ثم لا يلبث أن يقف عند مفترق طرق، يختار فيه تخصصًا يعبّر عن شغفه، أو عملًا تكتشف فيه الفتاة ذاتها، وقد أصبحت أكثر وعيًا بما تريد.
الكبار يشكّون أيضًا: كشف وهم النضج الكامل:

يشدّ حزامه على وسطه، فتتدلّى زوائد كرشه حول خصره، تراه بيننا ونحن نقف مشدوهين أمام اللوحات الإعلانية التي تعرض منتجات تتجاوز قدرتنا الشرائية، ونوقن في لحظة صمت أننا لن ننتصر في وجه ما يمثله ذلك الرجل المتألق في الإعلان، من قيم ذكورية متعالية وصور مستحيلة للنجاح. ولن نصل، حتى في أحلامنا، لنعانق فتاة تشبه تلك الممثلة بمقاييسها الهوليودية.

أما أن نعيش بتلك السعادة والدعة التي تلتف بها الأسرة في الإعلانات حول مائدة السفرة، وهم يلعقون ما ينساب من شطائرهم من كريمات وعصارات، فتخاطبنا حركات شفاههم أن السعادة تكمن في تذوق قطعة الجبنة تلك، أو ارتداء ذاك الحذاء، أو ركوب قارب في أزقة البندقية الغارقة بالحب والجمال.

تعدنا الإعلانات بحياة مليئة بالرضا، شرط أن نتبع المسار المرسوم بدقة: وظيفة مستقرة، أسرة مثالية، استهلاك دائم، وابتسامة حاضرة. وكما تقول سارة أحمد في كتابها سياسات السعادة: “من لا يوافق على طريق السعادة الجاهز يُعامل كمصدر تعاسة”. فالسعادة لم تعد شعورًا داخليًا، بل امتثالًا لقوالب اجتماعية تُفرض علينا باسم الحياة الجيدة.

ما توصله لنا هذه الصور أننا لا نملك ما يكفي، ولا نفعل ما يكفي، وأننا والنجاح على طرفي نقيض. ومن هنا نعيش في قلق وشك: هل يشعر الشريك بالرضا؟ هل أنجو من تنمّر زملائي في العمل؟ هل يرضى عني أبنائي؟

تأجيل قرار مهني مصيري، أو التردد في ترك وظيفة لا نحبها، أو الصمت أمام علاقة لا تشبهنا، كلها أمثلة على ارتباكنا أمام صورة “الناضج” الذي يُفترض أن يعرف دائمًا ما يفعل. لكن الحقيقة أن النضج لا يعني اليقين، بل القدرة على التعايش مع الأسئلة المفتوحة. لسنا ضعفاء حين نشك، بل بشر نحاول أن نعيش بصدق في عالم معقّد.

وفي مجتمع يُكافئ من يبدو واثقًا دائمًا، يصبح مجرد الاعتراف بالحيرة نوعًا من التحرر الداخلي. فالصدق مع النفس، لا الاستعراض الخارجي، هو ما يمنحنا القوة الفعلية.

في بيئة مليئة بالضغوط والتحديات مثل التي نعيش فيها في الشرق الأوسط، حيث الصراعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا تنتهي، يُضاف إلى ذلك الضغط المستمر ليظهر الفرد وكأنه يمتلك إجابات حاسمة لكل الأسئلة. هذه الضغوط تعكس الحاجة المتزايدة للثقة بالنفس واليقين، لكن الحقيقة أن هذا غير ممكن. الحياة لا تقدم دائمًا أجوبة نهائية، بل سلسلة من الأسئلة المتجددة.
ولذلك، من الأهمية أن نعلّم أبناءنا التعايش مع الشك كجزء طبيعي من حياتهم، فالتقدم لا يكمن في الوصول إلى يقين ثابت، بل في قدرتهم على البحث المستمر، على النمو وسط هذه الأسئلة، واكتشاف المعاني بمرور الوقت. فالتعامل مع الشك ليس ضعفًا، بل هو شكل من أشكال القوة، وهو ما يفتح الأفق لفرص أكبر في التفكير والنمو الشخصي.
العيش دون خريطة: فلسفة “التعلّم بالمحاولة”

نحن مثل النحلة في حركتها، نبحث ونكافح دون أن نسأل: ما الجدوى؟ نسعى نحو الكمال دون أن نصل، ونصارع الحياة بلا توقف، لكننا نعيش في دوامة لا نعرف كيف نخرج منها. فكيف نعيش بسلام ورضا، مع قبولنا لعيوبنا؟

هل نعيش في خوف من المجهول؟ أم في أزمة ثقة؟ هل يمكننا السير في الحياة دون خطة واضحة، نختار خطواتنا بثقة في أن الطريق سيظهر لنا مع مرور الوقت؟ تلك هي الحرية التي تغذيها التجربة والحدس.

الحياة ليست خطة ثابتة أو خارطة، بل هي رحلة تكتسب معناها عندما نعيش بتوافق مع قلوبنا، دون مقاومة. فالحياة تصبح أكثر وضوحًا عندما نعيشها بطريقة فريدة، حتى وإن كانت فوضوية فإن العشوائية هي الدرب الذي اختارته الحياة لأحداثها.

ارفعوا الأشرعة، واستسلموا للريح، واطمئنوا بالإيمان — فإن الرزق موزّع، والطريق ترسمه الخطوة.
الرسائل الأبوية كجسور بين الأجيال

هل تذكر ما كانت ترويه جدتك من قصص وحكايات؟ هل تذكر كلماتها ومسمياتها للأشياء؟ ربما كلمات كـ”الدبعي”، و”السلع”، و”الخابية” ما زالت ترن في أذنك. كانت تلك الكلمات تُنطق بإيقاعٍ دافئ، كأنها تعاويذ تحرس الذاكرة. أما اليوم، فقد تغيّر إيقاع الحياة، وتبدّلت معاني الأشياء، مع اختراع أدوات الاتصال الحديثة، وبروز نمط جديد للعيش وقيم مغايرة لما عايشه والداك، مما يجعل التفاهم معهما أحيانًا أشبه بمحاولة ترجمة قصيدة بلغة منقرضة.

لكن لوالديك أسبقية الوجود على هذا الكوكب. لقد عالجا مشاكله زمناً طويلاً، قبل أن تكتمل قواك وتتفوق عليهما باستيعابك لأدوات العصر وأنماطه. وإن بدا لك أن الزمن قد جاوزهما، فثمة في كلماتهما أثر خبرة لا يمنحها لك أي تطبيق. في صمتهم، كما في كلامهم، توجد رسائل تحمل مفتاحًا لفهم لا يتوفر في الإيقاع السريع للعصر الحالي.

فإذا واجهتكم قضية ما، يعود الأب إلى كتابه الأثير، يستشهد به ويسرد عليك بعضًا مما قرأ، في نفس الوقت الذي تستشير فيه أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فيقترح عليك حلولًا وينصحك ويذكّرك بموعد، بسرعة تذكرنا بمارد سليمان حين أحضر عرش بلقيس. لكن، في كلمات والديك يكمن صدى تجربتهما التي لا يمكن للتكنولوجيا أن تحل محلها. لا تستهِن بالبطء الذي يرافق حديثهما، فقد يكون ذلك تأملًا عميقًا، يتسلل إليك ببطء ولكنه يمس جوهر الفهم الإنساني.

قد تفضل التمتع بالحرية والاستقلال، وتقضي وقتك في غرف الدردشة والمنصات الاجتماعية، مهتمًا بقضايا البيئة، ومشاكل العولمة، وما يواجهه صديقك الكندي من أزمات اجتماعية. ومع ذلك، لا تُغفل ما يقدمه لك والداك من نصح. ففي كلماتهما مداخل للفهم، وفي صمتهما إشارات تستحق التأمل. فهما لا يعلمانك فقط كيف تعيش في عالم سريع، بل يعلمانك كيف تكون إنسانًا كاملًا، في عالم مليء بالتساؤلات.

انطلق إلى الطبيعة، وتعرف على الأصدقاء في الحيز الواقعي. واجه الناس، وتفاعل معهم، وافهم نفسك من خلالهم. زد مهاراتك في الحقل الاجتماعي، وتقبل الفشل كجزء من الطريق، ولا تستسلم بعد المحاولة الأولى. اترك القلق، وامنح نفسك فرصة لاكتشاف الحياة، مع حمل رسائل الأبوين في قلبك كجسور لا تسقط مهما تغيّر الزمن. ففي هذه الرسائل، ستجد الدليل على أن التذكر ليس عبئًا، بل هو الطريق نحو التعايش مع التحديات بروح متجددة.
الخاتمة:
العيش دون خريطة هو أن نقبل القلق كجزء من الحياة، وأن ندرك أن التعلم يولد وسط العثرات، لا فقط في المسارات الممهدة. فبناء الإنسان لا يحتاج إجابات جاهزة، بل قلبًا يجرؤ على السؤال وعقلاً يصبر على الحيرة.

فلنربِّ أبناءنا على الشجاعة لا الامتثال، وعلى الفضول لا الرضا بالجاهز، نعلّمهم أن الشك أسلوب حياة لا عيبًا، وأن يعيشوا وسط الأسئلة بثقة لا خوف، مؤمنين بأن النضج ليس يقينًا ثابتًا، بل حبٌّ وسعيٌ وتأمل رغم الغموض. حينها، نكون قد منحناهم ما هو أثمن من الحلول: الثقة بأنفسهم وهم يكتشفون العالم بلا خارطة، بخطى شجاعة ومترددة معا.

قد يعجبك ايضا