د. سناء عبابنة تكتب .. من قاعات الطب إلى صفوف البطالة: متى نعيد توجيه البوصلة نحو المستقبل؟

الشعب نيوز:-

 

في تصريحٍ لافتٍ أثار جدلاً واسعاً، أعلن نقيب الأطباء أن آلاف الخريجين من كليات الطب يعانون البطالة أو يعملون في مجالات بعيدة عن اختصاصهم. هذه الحقيقة المؤلمة لا تمس الأطباء وحدهم، بل تعكس أزمة أوسع تطال خريجي العديد من التخصصات التقليدية التي لم تعد تواكب التحولات العميقة في سوق العمل العالمي.

في الوقت الذي ما زال فيه بعض الشباب يتزاحمون على مقاعد التخصصات النظرية والطبية، يبرز في المقابل نموذجٌ عالميٌّ ناجح، لدولٍ استثمرت في العقول بدلاً من الشهادات التقليدية، ووجهت طاقاتها نحو التخصصات التقنية الحديثة. دولٌ مثل الهند، التي أصبحت قوة عظمى في سوق تكنولوجيا المعلومات، بفضل تخريجها أكثر من مليوني شاب وشابة حاصلين على شهادات صناعية واحترافية معتمدة دولياً في مجالات البرمجة، الأمن السيبراني، تحليل البيانات، والذكاء الاصطناعي.

هذا التحول لم يكن صدفة. بل جاء نتيجة تخطيط ذكي، واستشراف واعٍ للمستقبل، وإيمان بأن الاستثمار في العقول هو الطريق الأقصر للنمو الاقتصادي، ومحاربة البطالة، وتحقيق الريادة.

لقد آن الأوان أن نعيد النظر في خريطة التعليم والتخصصات الجامعية. لم يعد مقبولاً أن نستمر في إنتاج أعداد ضخمة من الخريجين في تخصصات لا يحتاجها السوق، في وقتٍ تتعطش فيه الأسواق المحلية والعالمية إلى محترفين في مجالات تكنولوجيا المعلومات والابتكار الرقمي.

إن التحول نحو التخصصات التقنية لا يعني بالضرورة التخلي عن التخصصات الطبية أو الإنسانية، بل يعني التوازن، وإعادة توزيع الموارد البشرية بما يخدم التنمية المستدامة. كما يعني إدخال مسارات تقنية حديثة حتى داخل التخصصات التقليدية، مثل الطب الرقمي، والتحليل الطبي المدعوم بالذكاء الاصطناعي.

وفي ظل ثورة صناعية رابعة باتت تطرق أبواب العالم بقوة، فإن فرص النجاح لم تعد مرتبطة فقط بالحصول على شهادة جامعية، بل بالقدرة على التكيف، والتعلم المستمر، واكتساب مهارات العصر.

ختاماً، من واجب الحكومات والجامعات ووسائل الإعلام، أن تلعب دوراً محورياً في إعادة تشكيل الوعي المجتمعي تجاه التخصصات المطلوبة، والتشجيع على المسارات المهنية البديلة، فالمستقبل لا ينتظر، ومن لا يواكبه، سيتخلف عن الركب.

من هنا، أعتقد أنه آن الأوان لأن تعيد مؤسسات التعليم في بلداننا تقييم خياراتها الاستراتيجية. لا يجوز أن يستمر النظام التعليمي في تخريج أعداد هائلة من الطلبة في تخصصات لم تعد سوق العمل المحلية أو العالمية بحاجة إليها، بينما نشهد في الوقت ذاته فجوة واضحة في الكفاءات التقنية والمهنية التي تتطلبها الثورة الصناعية الرابعة.

لكن من المهم التنبيه إلى أن الدعوة إلى التخصصات الحديثة لا تعني إقصاء الطب أو العلوم الإنسانية، بل تستدعي سعياً حقيقياً نحو التوازن، وإعادة توزيع الموارد البشرية بما يتواءم مع متطلبات التنمية المستدامة. بل إنّ إدماج المسارات التقنية الحديثة ضمن التخصصات التقليدية – كإستخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص والعلاج – يمكن أن يكون جسراً لتجديد هذه التخصصات وجعلها أكثر فاعلية في عصرنا الرقمي

فالمستقبل لا يُنتظر، وإنما يُصنع. ومن لا يعِ هذه الحقيقة اليوم، سيدفع ثمن تخلفه غداً.
د. سناء عبابنة

قد يعجبك ايضا