
الحِمارُ الهائِجُ وذِئابُ الصَّحراءِ..سعيد ذياب سليم
الشعب نيوز:-
في يَومٍ خَريفيٍّ هادِئ، تَمَدَّدَتِ الأرضُ تَحتَ الشَّمسِ الوادِعَةِ كأنَّها تَغفو. فإذا بالحِمارِ يَجِنُّ فَجأَةً ويَنفَلِتُ هائِجًا، يَقْلِبُ سَكينَةَ المَشهَدِ رأسًا على عَقِب. يَرفُسُ الحَظيرَةَ بِمَن فيها، كأنَّما أعلَنَ الحَربَ على الوُجودِ بلا سَبَبٍ ظاهِر. أهو جُنونُ عَظَمَةٍ لَم يَجِدْ مَن يَردَعُه؟ بَدا وكأنَّهُ يَحمِلُ في رأسِه طُبولًا تَدُقُّ بلا تَوقُّف.
ثُمَّ تَجاوَزَ السُّورَ إلى أرضِ الجِيران، فَهاجَمَ البَقرَةَ المِسكينَة، ودَلَقَ سَطلَ الحَليبِ على الأرض، وقَلَبَ آنِيَةَ الماءِ والعَلف. تَطايرَ الرِّيشُ وثَارَ الغُبار، وهَرولتِ الدَّجاجاتُ تُبَقْبِقُ مَذعوراتٍ في كُلِّ اتِّجاه، ونَبَحَ الكَلبُ باضطِراب، فيما صاحَ الدِّيكُ في غَيرِ أوانِه، وكأنَّ الشَّمسَ قد بَعَثَت في ساعةِ لَيل.
ولَم يَقِفْ عِندَ هذا الحَدّ، بَل قَصَدَ سُوقَ القَريَةِ بِخُطواتٍ مُتَسارِعَةٍ وعُيونٍ جاحِظَة. هُناكَ هاجَمَ العَجائِزَ وأوقَعَ البَضائِعَ أرضًا، يَدهَسُ ويُدَمِّرُ كما لو أنَّهُ إعصار. نَطَحَ كَالثَّور، ونَهَشَ كالضبع ، ورَكَلَ كالبغل، حتّى بَدا في لَحظَةٍ أنَّهُ جَمَعَ صِفاتَ الحَيواناتِ جَميعًا. ارتَكَبَ ما لَم يَتَجَرَّأْ عليهِ حِمارٌ مِن قَبل، تاركًا النّاسَ في ذُهولٍ ورُعب، يَتَساءَلونَ بأعيُنٍ مُرتَجِفَة: “أقَامَتِ القِيامَة؟”
عَمَّتِ الفَوضى كُلَّ ناحِيَة؛ الكَبيرُ والصَّغيرُ يَركُضون، العاقِلُ وغيرُ العاقِلِ يَتَدافَعون، ولا تُسمَعُ إلّا صَرخاتٌ مُتَقَطِّعَة: “اِركُض! اِهرُب! أَسرِع مِن هُنا!” فمَن يَجرؤُ على لَجمِ الحِمارِ وقد صارَ عاصِفَةً مِن لَهَبٍ وتُراب؟
وما الذي حَلَّ به؟ أَهو مَسٌّ شَيطانِيٌّ حَمَلَهُ على الظَّنِّ أنَّهُ الحَبرُ الأعظَم أو إمبراطورُ الشَّرق، قادِرٌ أن يُسيطِرَ على المَراعِي ويُوزِّعَ الحِصَصَ مِن رِمالِ الصَّحاري ومِياهِ البِحار؟ أَم يَفعَلُ ذلكَ بإشارَةٍ مِن أسَدِ الغابَةِ الذَّهبيّ؟ ذاكَ الأسَدُ الَّذي لا يَكترِثُ إلّا لِكُنوزِه: قِلادَةٍ ذَهبيَّة، حِذاءٍ ذَهبيّ، هاتِفٍ ذَهبيّ، وحَتّى أَسرارٍ وغَرائِبَ ذَهبيَّة! أَم أنَّ الحِمارَ تَمَرَّدَ على قانُونِ الغابَة، واكتَفى بالتَّفكيرِ بِقائِمَتَيهِ الخَلفيَّتَينِ المُزَيَّنتَينِ بِحَذوَتَينِ ذَهبيَّتَين مِن عَطايا الأسَد، يَرفَعُهُما بِبَطشٍ ورَشاقَةٍ تُطَالُ القَريبَ والبَعيد؟
لقد أذهَلَ العالَمَ ضَجيجُهُ وغَوغاؤُه… فمَن يُوقِفُ الحِمار؟
تَكَدَّسَتِ التَّساؤُلاتُ في الغابَةِ والصَّحراءِ وحَتّى في أَعمَاقِ البَحر: ما الَّذي يُريدُهُ هذا الحِمار؟ أَهُو خَطرٌ بِطَبيعَتِه لِمُجرَّدِ كَونِه حِمارًا، أَم لأنَّ في قَدَميهِ الخَلفيَّتَينِ تَهديدًا وُجودِيًّا؟ لقد تَحَوَّلَتِ المَسألَةُ إلى سُؤالٍ عن البَقاء.
اِجتَمَعَ عُقَلاءُ الغابَةِ في “بَيتِ الحِكمَة”، مِن شَرقٍ وغَرب، وحَتّى مَن كانَت بَينَهُم عَداوَةٌ قَديمَة نَسُوها مُؤقَّتًا. نُوقِشَت أَطرُوحاتٌ كَثيرة، لكِنَّها جَميعًا دارَت حَولَ نُقطَةٍ واحِدَة: كَيفَ نُوقِفُ الحِمار؟
عَرَضَت الأَرانِبُ خُطَّتَها القَديمَة: أن يُوهِموهُ بِوُجودِ حِمارٍ أَقوَى يَسكُنُ بئرَ الشَّيطان، فإذا وقَفَ على حافَّةِ البِئرِ ونَظَرَ رأى صُورتَهُ في الماء، فَيَقفِزُ إليها ظانًّا أنَّها نِزال، فيَرتَطِمُ في القاعِ السَّحيق فيهلَك. لكنَّ الحِمارَ حينَ بَلَغَتهُ الحِكايةُ قَهقَهَ حتّى استَلقى على ظَهرِه، مُردِّدًا: “نُكتَةٌ عَبقرِيَّة… نُكتَةٌ عَبقرِيَّة!”
أدرَكَ المُؤتَمِرونَ أنَّ بَيتَ الحِكمَةِ أَشبَهُ بِوِعاءٍ مُثقَبٍ يَرشَحُ مِنهُ الماء؛ فلا سِرَّ يَصمُدُ فيه. لجَؤوا إلى الهَمسِ والإشارات: مِنهُم مَنِ اقتَرَحَ أنشوطَةً تُلقَى حَولَ عُنُقِه وتُربَطُ بِجِذعِ شَجَرَة، ومَن رَأى أن يُحفَرَ خَندَقٌ في طَريقِه، وآخَرونَ فَكَّروا بإرسالِ النَّحلِ لِمُطارَدَتِه. لكِنَّ خَوفَهُم مِن سَطوَةِ الأسَدِ الذَّهبيِّ كَبَّلَ قَراراتِهم، فَاكتَفَوا بِالشَّجبِ والتَّنديد، ولَعَنوا السّاعَةَ الَّتي دَخَلَ فيها الحِمارُ إلى الحَظيرَةِ أَوَّلَ مَرَّة.
عادَت الأَرانِبُ إلى جُحورِها مَذعورَة، والتَفَّت حَولَ جَدِّها الكاهِنِ الكَبير تَشكو ما أَلَمَّ بها. كانَ الكاهِنُ يُقَلِّبُ دَفاتِرَ قَديمَةً كأنَّها تَحوي أَسرارَ القُرون، ثُمَّ أخرَجَ كُرَةَ البُلُّور الَّتي يَستَشِيرُها في الأَحداثِ الجِسام. أَوقَدَ البَخور، تَلا العَزائِم، ثُمَّ أَلقى بَصرَهُ في الكُرَة، فَرأى مَشهَدًا أَوقَدَ في قَلبِه شُعلَةَ الأَمَل.
لقد كانَ الحِمارُ يَركُضُ بِجُنونٍ في صَحراءِ الشَّرقِ الأوسَط، أَفقَدَهُ العَطَشُ بَقايا عَقلِه. يَركُضُ كأنَّهُ يَطير، يَبحَثُ عن الماء، حتّى لَمَحَ مِن بَعيدٍ سَرابًا يَلمَعُ كَمَوجِ البَحر. حَسِبَهُ واحَةً، فَقَفَزَ إليها قفزة عَريضَة، ليَهبِطَ في كُثيبٍ مِن رِمالٍ مُتَحَرِّكَة. غَرَزَت أقدامُه، حاوَلَ تَحريرَها، فَغاصَ أَكثَر. جَحَظَت عَيناهُ مِنَ المُفاجَأَة، وارتَفَعَ نِهاقُهُ عاليًا. رَدَّ عَلَيهِ عُواءُ ذِئبٍ مِن بَعيد، ثُمَّ تَبِعَتهُ ذِئابٌ أُخرَى، أَحاطَت به كالسَّيل. نَهَقَ بِخَوفٍ وحِيرَة، لكنَّ أَحَدَها عاجَلَهُ بِنَهشة في قَفاه، وآخَرُ ارتَقى ظَهرَه، وثالِثٌ أطبَقَ فَكَّيهِ على حنجَرَتِه. تَهاوَت قُواه، وانسَلَّت مِنهُ الحَياة، وأَسدَلَ اللَّيلُ عَباءَتَهُ على الصَّحراءِ. لَم يَكُن يَعرِفُ شَيئًا عن أَسرارِها ولا عن سَرابِها ولا عن ذِئابِها.
أطفَأَ الكاهِنُ نارَه، وأَخبَرَ أَبناءَهُ أنَّ لِكُلِّ ظالِمٍ نِهايَة، لكِنَّهُ لَم يُبِحْ لَهُم بِالتَّفاصيل حتّى لا تَلتَقِطَها أُذُنا الحِمارِ الكَبيرَتان. اكتَفى بِالقَول:
“اِصبِروا، ولا تَترُكوا أوطانَكُم… فالحِمارُ سَيَترُكُكُم حَتمًا حينَ يَبتَلِعُهُ صَمتُ الرِّمال. الطَّيرُ قد يَبتَعِدُ لكِنَّهُ يَعود، وكذلكَ الأَسمَاكُ والفَراشُ والمَواسِم… أَمّا الحَميرُ الهَوجاءُ فلا تَعود، لأنَّها لا تَعرِفُ إلّا طَريقَ الفَناء.”