مأكولات ذات مذاق سياسي”سعيد ذياب سليم
الشعب نيوز:-
هل للطعام أهداف أخرى غير اشتهائه وتناوله وتذوقه ثم بلعه؟
هل هناك ثقافة ترتبط بالطعام؟ تسللت إلى عاداتنا من خلال اختلاطنا بالشعوب حولنا أو اصطدامنا معهم وربما فرضتها علينا الحرب؟
يحلو لنا سرد قصة المنسف وكيف أنه بعض مفردات عاداتنا وتقاليدنا التراثية يُقَدم في مختلف الأحوال في السراء والضراء، يتميز المنسف الأردني بمكوناته الطبيعية المنتقاة من البيئة الأردنية؛ اللحم البلدي المطبوخ باللبن “الجميد” وحبذا لو كان جميدا كركيا، يُفرش خبز “الشراك” في “السدر” ويوضع عليه الأرز -أو البرغل- توزع عليه قطع اللحم المطبوخ حول رأس الذبيحة ثم يُشرّب باللبن، ويزيّن بطرق مختلفة بين شمال المملكة وجنوبها حضرها وريفها وبدوها، يعد أحد الرموز الثقافية الأردنية بما يتضمنه من مفاهيم سياسية لا يمكننا تجاهلها، فقد ورد في سفر الخروج من العهد القديم آية تأمر اليهود بعدم طبخ اللحم باللبن :”أَوَّلُ أَبْكَارِ أَرْضِكَ تُحْضِرُهُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَطْبُخْ جَدْيًا بِلَبَنِ أُمِّهِ.”، تقول الرواية الشعبية أن المنسف وُلد على هامش الحرب بين يهود والمؤابيين، وأنه وسيلة ميزت المؤابيين عن غيرهم من الدخلاء.
وقد أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”، طبق المنسف الأردني على لائحة التراث العالمي غير المادي في آذار 2021.
طبق آخر تفوح منه رائحة شهية ولا تغيب عنه السياسة، الشاورما وجبة من شرائح اللحم أو الدجاج المبهر والمشوي على سيخ عمودي مزين أعلاه بقطع الدهن والذي يدور أمام مصدر حراري هادئ ليكتسب مذاقه المميز ثم يوضع في شطيرة من الخبز العربي يدهن بكريمة الثوم ويضاف عليه قطع البصل والخضروات، وجبة شعبية شهية تقول الرواية أنها تركية ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر باسم شيفرما ceverem حملها معهم الحجاج الأتراك إلى منطقتنا العربية -ولا أدري لماذا لم يحملها معهم الجنود الأتراك الذين كانوا يجوبون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأجزاء من أوروبا أيضا؟ ومن الناس من يعتبرها ذات هوية شامية أو مصرية!
اشتهرت في كثير من دول العالم وبوصفات وأسماء مختلفة، أحبها كثير من الناس حتى الساسة. في الوقت الذي وقف فيه بعض الساسة -في فرنسا- ضد الشاورما باعتبارها تحمل بصمة الثقافة الإسلامية، وادعتها إسرائيل لنفسها واعتبرتها اختراع يهودي بل وأسمتها “الشاورما الإسرائيلية” كعادتها في سرقة الأرض والتاريخ والتراث.
لقد كان للدولة العثمانية آثار كثيرة، من الآثار التي تُذكّر بها “الكرواسون” Croissant مخبوزات محشوة بالمربى أو العسل أو الجبن غنية بالزبدة لها شكل هلال، يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر الميلادي، عرفت في النمسا عندما هزمت الجيوش العثمانية أمام مدينة فينا – كما تقول الأسطورة- حيث قام خباز نمساوي باختراع هذا النوع من المعجنات على صورة الهلال الذي كان رمز الدولة العثمانية لتخليد النصر عليها، عرفت باسم “kipferl” والتي تعني هلال بالألمانية، ثم انتقل إلى فرنسا و عرف بالاسم “Croissant” وقيل أن الملكة “ماري أنطوانيت” أحبت هذا النوع من المعجنات لأنه يذكرها بوطنها النمسا، قد لا تكون القصة صحيحة لكنها لا تخلو من إسقاطات نفسية سياسية تركتها الحروب عبر التاريخ حتى أن بعض الفرنسيين يدعي أنها تعود إلى معركة “بلاط الشهداء” التي انهزمت فيها الجيوش الإسلامية على مشارف فرنسا.
قائمة طويلة من الأطعمة والمشروبات دخلت منطقتنا الإقليمية غزت موائدنا ووجدت طريقها إلى أفواهنا .
القهوة واحدة منها جاءت من الحبشة إلى اليمن ثم انتشرت في المنطقة العربية، حوربت ولم يكن من السهل تقبلها لكنها أصبحت عربية الهوية و تميزت بمذاقها الخاص بالهال و القرنفل، تُقدّم بطقوس معينة و آداب تراعى عند تقديمها وتناولها، وصلت تركيا و انتشرت من هناك على أنها تركية عبر أوروبا لتصبح فرنسية و إيطالية وبريطانية ثم لتقطع الأطلسي و تصبح أمريكية، كل قوم أضاف عليها مذاقا خاصا و حضّرَها بطريقة خاصة عرفت به وعرف بها بل وتحزّب كل إلى مذاقه الذي أحب.
هذا بعض ما ورد في دفتر التاريخ من نوادر، ماذا يحدث الآن؟ ماذا يحدث للإنسان العادي تحت نير الحرب؟
عندما كانت تشح موارد دقيق القمح لجأ الناس لطحن الشعير للحصول على بديل مناسب، وطحنت حبوب الذرة البيضاء لصنع “الكراديش” الخبز المصنوع من ذلك الدقيق فتقاسم الانسان والحيوان والطير الشدة والرخاء، حدث ذلك أيام الحروب الماضية والحاضرة جميعا، وأكل الأعشاب وأوراق الشجر عندما لم تسعفه حديقة المنزل بخضرواتها، ثم نظر إلى السماء واصطاد الحمائم البرية وغيرها حتى قيل في مدينة “سراييفو” أثناء حصارها الذي امتد أربع سنوات في حرب البوسنة والهرسك أنها خلت من طيورها أثناء الحرب .
أما غزة فطعامها الآن له طعم المر والقهر والغثيان فالقليل القليل من المساعدات التي دخلت تلقّاها تجار الحرب وعرضوها بأضعاف أسعارها على المهجّرين الذين طردوا بالقذائف والنيران من دورهم ولم يحملوا إلا كساء أبدانهم يغطون بها هياكلهم العظمية بعد أن هزلت أجسامهم، نفس تجار الحرب الذين وفروا للموائد الإسرائيلية حاجتها وإن أغلقت أمامهم طرق البحر فتحت لهم أبواب الصحراء.
فأما إذا جاع الإنسان في غزة ولم يجد ما يضع في فم ولده شيئا من هوام الأرض يخرج يبحث بين القذائف فلعله إن لم يجد شيئا يطعم كلاب الأرض.
سعيد ذياب سليم