من جذور التاريخ وفي سنة ٨٢٠ ميلادية إلى مستقبل الذكاء الاصطناعي : كيف مهّد الخوارزمي الطريق للثورة الرقمية الدكتور حازم صالح الرواشدة

الشعب نيوز:-

 

 

في عالمٍ تُنظّمه الخوارزميات وتنبض أجهزته بالحسابات، حيث تقرأ الآلة الصور وتُحلّل النصوص وتفهم الكلام وتنتج المحتوى، قد يبدو أن هذه الطفرة التقنية هي من صنع العصر وحده. لكنها في الحقيقة ثمرة شجرة جذورها ضاربة في عمق التاريخ، في زمنٍ كان فيه العقل هو النجم، والعلوم تُترجم وتُنتج في عاصمة المأمون.

هناك، وفي قلب بغداد، وُلد بيت الحكمة، مركزٌ علمي فريد من نوعه، اجتمع فيه العلماء من شتى الأديان والثقافات، يترجمون الكتب، يتناقشون في الأفكار، ويبتكرون نظريات جديدة غيرت العالم. ومن بين أولئك العلماء الذين لمعت أسماؤهم، برز اسم محمد بن موسى الخوارزمي، الرجل الذي لم يكن يعلم أن اختراعه لرمز بسيط — هو “الصفر” — سيُحدث أكبر ثورة عرفها العقل البشري.

قبل الخوارزمي، لم يكن للعدم معنى عددي، ولم يكن الصفر موجودًا في الأرقام اليونانية أو الرومانية. الأرقام بدأت من الواحد، لكن الخوارزمي، برؤيته الثاقبة، قدّم الصفر لا كفراغ، بل كقيمة أساسية. هذا الرمز الصغير غيّر كل شيء، فقد أتاح لنا بناء النظام العشري، وجعل تمثيل الأعداد وفهمها أكثر منطقية وبساطة. ومن هذا النظام، وُلد لاحقًا النظام الثنائي الذي تعتمد عليه كل التكنولوجيا الرقمية اليوم.

في عالمنا الحديث، سواء كنا نلتقط صورة، نُشاهد مقطع فيديو، نكتب رسالة، نُفعّل مساعدًا صوتيًا، أو نتفاعل مع نموذج ذكاء اصطناعي، فإننا — في الجوهر — نتعامل مع سلاسل من الأصفار والواحدات. هذا هو قلب الحوسبة: تمثيل كل شكل من أشكال البيانات — صورة، صوت، نص، حركة، فكرة — عبر رمزين اثنين فقط: 0 و1. هذا الترميز الثنائي هو ما يُمكّن الآلات من “فهم” المعلومات، “تعلّمها”، وتحليلها، ومن ثم توليد استجابات ذكية.

وهنا تبرز عظمة الصفر. فلولا “صفر الخوارزمي”، لما كان هناك نظام ثنائي، ولما أمكن لأي حاسوب أن يعمل، ولما وُجِد الذكاء الاصطناعي بصيغته الحالية. الصفر لم يكن مجرد رقم، بل بوابة لعصر جديد من التفكير المنطقي، والتجريد، والتحليل. لقد أضاف إلى الأرقام بُعدًا جديدًا، مَكَّن الآلة لاحقًا من تقليد الإنسان، وتعلُّم لغته، والتفاعل معه.

وعلى الرغم من أن إنجازاته في علم الجبر هي الأكثر شهرة — حتى إن كلمة “Algebra” نفسها مأخوذة من عنوان أحد كتبه — إلا أن إسهاماته لم تتوقف عند ذلك. فقد برع الخوارزمي في علم الفلك، وكتب جداول فلكية دقيقة ساعدت العلماء بعده في ضبط الوقت ومواقع النجوم. كما ساهم في علم الجغرافيا، وشارك في رسم أولى الخرائط الدقيقة للعالم الإسلامي آنذاك، بل إنه قاد مشروعًا علميًا ضخمًا لإعادة قياس محيط الأرض بدقة مذهلة بالنسبة لعصره. كذلك ساهم في علم الحساب وتطوير طرق مبسطة لإجراء العمليات الحسابية، مما سهّل تعليم الرياضيات ونشرها بين المتعلمين.

والأهم من ذلك أن الخوارزمي لم يُنجز عمله من فراغ، بل من داخل مجتمع علمي حيّ، احتضنه بيت الحكمة، حيث كانت الأفكار تُناقش بحرية، والعقول تُحتَرم، والعلم يُموَّل ويُصان. كانت تلك البيئة الذهبية تذكيرًا بأن التقدّم لا يحتاج فقط إلى عباقرة، بل إلى مؤسسات تؤمن بالعلم وتحميه.

إن الذكاء الاصطناعي اليوم هو ذروة تراكم معرفي عمره قرون، بدأ حين جلس الخوارزمي في بغداد، ورسم الصفر على الورق. ذلك الرمز الذي ظنه البعض عديم القيمة، تبيّن لاحقًا أنه مفتاح لأعظم آلة عرفتها البشرية. والآن، ونحن نعيش في زمن تكتب فيه النماذج النصوص، وتُنتج الموسيقى، وتفهم الصور، علينا أن نتذكّر أن كل ذلك، حرفيًا، ليس إلا ملايين، بل مليارات من الأصفار والواحدات — ترِكة الصفر، وهديّة الخوارزمي للعالم.

لقد بدأنا الحكاية، ولا شيء يمنعنا من أن نُكملها. الصفر لم يكن نهاية، بل بداية. والبداية الآن بين أيدينا من جديد.

قد يعجبك ايضا