
حرب الآخرين تمر من هنا: الأردن وجغرافيا الصراع الساخن..سعيد ذياب سليم
الشعب نيوز:-
مقدمة:
أين نحن من الحرب غير المُعلنة؟
في الوقت الذي تتقاطع فيه أذرع إيران وإسرائيل فوق خرائط الوكلاء، وتشتعل الجبهات دون إعلانٍ رسمي، يبدو أن الشرق الأوسط لم يعد ينتظر اندلاع الحروب، بل يعيش في قلبها بصيغٍ جديدة.
فهل تفاجأت إيران فعلًا بالعدوان الإسرائيلي؟ أم بعمقه ونوعية أدواته؟
ألم يكن بوسعها رسم سيناريوهات الرد منذ أن بدأ نتنياهو بالمناورة قبل سنوات، بل منذ توليه رئاسة الحكومة لأكثر من عقدين؟
عملاء على الأرض يشعلون الفتيل، ثم تأتي الضربة من السماء، بأذرعٍ طويلة وعيونٍ لا تغفل.
لم تعد الحروب في عصرنا تبدأ بجيوش تزحف أو بيانات عسكرية، بل تشتعل في الفضاء السيبراني، على شاشات الأخبار، وعبر وكلاء يتحركون في الظلال.
وفي قلب هذه الخريطة المعقدة، تقف الأردن أشبه بجزيرة لجوءٍ هادئة وسط محيط هادر.
تحاول أن تحمي أمنها الداخلي، وتوازن علاقاتها في محيطٍ ملتهب لا يرحم، حيث تتقاطع النيران ولا تُمنح الدول الصغيرة رفاهية الحياد التام.
فما أثر هذا الصراع الصامت ـ المتوتر دومًا ـ على الأردن؟
وكيف ينظر الإنسان الأردني، رسميًا وشعبيًا، إلى ما يحدث من حوله؟
ملامح المواجهة الخفية:
بدأ كتاب “الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية” لإدواردو غاليانو بهذه الكلمات الجارحة بصدقها:
“يقوم تقسيم العمل بين الأمم على أن بعضها يتخصص في الانتصار، والبعض الآخر في الخسارة. وقد كانت منطقتنا من العالم، المعروفة اليوم بأمريكا اللاتينية، سبّاقة في هذا المجال: إذ تخصصت في الخسارة منذ تلك الأزمنة البعيدة التي أبحر فيها الأوروبيون في زمن النهضة، وغرسوا أنيابهم في حناجر الحضارات الهندية. ومرّت القرون، فأتقنت أمريكا اللاتينية دورها.”
هذه الكلمات، وإن كُتبت عن قارة أخرى، تلامس وجدان الشرق الأوسط. فهنا أيضًا، وجدت شعوب عريقة نفسها في مرمى أطماع الخارج، تتحول من صانعة للتاريخ إلى هامش في خرائط القوى الكبرى. من الذهب والفضة في الأنديز، إلى النفط في صحارى العرب، ظلّ الآخر هو من يخطّط، ويقطف، ويعيد تعريف السيادة.
ما يجمع أمريكا اللاتينية بالشرق الأوسط ليس فقط الجغرافيا المنهوبة، بل تكرار دور الضحية. غير أن أمريكا اللاتينية أدركت هذا الدور وتمرّدت عليه، بينما لا يزال الشرق الأوسط يتأرجح بين الشهادة والاستسلام، بين أن يكون شاهدًا على استنزافه أو شريكًا في استمراره.
من هذا المبدأ، لم يُرَد لإيران أن تكون ذات شوكة. فُرضت عليها العقوبات، قُطعت أذرعها، وحوصرت مصالحها، فيما كانت إسرائيل اللاعب الرئيسي في توجيه الضربات، مُحرزة أهدافًا موجعة.
واليوم، تكشف الولايات المتحدة عن استعدادها لإنهاء ما بدأته ربيبتها، ما يفتح تساؤلًا قديمًا يتجدّد: من يوجّه الآخر؟ من يملي الاستراتيجية؟ الصراع بين إيران وإسرائيل لا حرب فيه تُعلن ولا سلم فيه يُعقد. إنها منطقة رمادية، مشتعلة على أطرافها، ومُلبّدة بالتوتر والخوف، تتجاوز حدودها لتلقي بظلالها على دول الجوار، ومنها الأردن
موقع الأردن الجغرافي والسياسي:
يقع الأردن في قلب منطقة مشتعلة بالصراعات، محاطًا بجبهات مشدودة ومتقلبة. فمن الغرب، الأراضي الفلسطينية المحتلة التي أقامت عليها إسرائيل كيانها الغاصب، عبر سلسلة من الاعتداءات التي منحتها اليد الطولى في سماء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وها هي اليوم تستعرض قدراتها فوق طهران نفسها، بعد أن ضيّقت الخناق على نفوذ إيران في لبنان وسوريا والعراق.
لقد حاولت الميليشيات الموالية لطهران مرارًا، الاقتراب من الحدود الأردنية، عبر محاولات تسلل وإثارة الفوضى، لكن الأردن ظل صامدًا، يحمي حدوده ويُحبط تلك المحاولات بحزم. في خضم هذا الإقليم الملتهب، أثبت الأردن قدرته على الحفاظ على سيادته، وعلى حماية أمنه واستقراره في وجه الرياح العاتية القادمة من الشمال والشرق.
الأردن ليس لاعبًا هامشيًا، بل دولة ذات سيادة راسخة، لها حضور سياسي متوازن، وعلاقات دولية تمتد شرقًا وغربًا، وتنسيق أمني محكم مع شركائه في الإقليم والعالم. ومع ذلك، لا يُخفي قلقه من التمدد الإيراني في سوريا والعراق، ولا يطمئن لما قد يحمله هذا النفوذ من فوضى أو تهديدات محتملة.
التحدي الحقيقي أمام الأردن اليوم، هو الموازنة الدقيقة بين الحياد وعدم التورط، وبين الحفاظ على اليقظة التامة في وجه أي خطر، مباشر كان أو غير مباشر. فسلامة أبنائه وأمن حدوده ليست موضع مساومة، وأي تهديد سيُواجه بالحسم اللازم لحماية الوطن واستقراره.
التأثيرات على الأردن:
مع اشتداد التوتر بين إيران وإسرائيل، وتفاقم التصعيد الإقليمي، يجد الأردن نفسه وسط ساحة مضطربة تُلقي بثقلها على أمنه واستقراره. فعلى المستوى الأمني، لا تزال التهديدات على الحدود الشمالية والشرقية قائمة، رغم التحولات الأخيرة في الجبهة السورية واللبنانية. تتجدد عمليات التهريب المنظم للسلاح والمخدرات، عبر جماعات تنشط في مناطق غير منضبطة جنوبي سوريا وغرب العراق، وغالبًا بدعم غير مباشر من قوى إقليمية.
وقد شهدت الأجواء الأردنية في الأشهر الأخيرة اختراقات لمسيرات أو شظايا صواريخ باليستية عابرة أُطلقت باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما يفرض على الجيش حالة رصد دائم وتعزيز مستمر للمنظومة الدفاعية.
أما سياسيًا، فيواجه الأردن ضغوطًا متقاطعة: من جهة، تدفعه الدول الحليفة نحو موقف أكثر تشددًا تجاه إيران، ومن جهة أخرى، ينبض الشارع العربي والمحيط الشعبي بخطاب مقاوم لا يزال حاضرًا بقوة. لذا، يحرص الأردن على التمسك بموقف متوازن، يرفض الحرب ويدعو إلى استقرار إقليمي دون استفزاز أو انحياز فجّ.
اقتصاديا، كل موجة تصعيد تعني اضطرابًا جديدًا. الأسواق تُربكها الضبابية، والتبادل التجاري عبر سوريا والعراق يتأثر بأي خلل أمني. كما أن المخاوف من تصاعد أسعار النفط أو تراجع الاستثمارات تشكل هاجسًا دائمًا لصانع القرار الاقتصادي.
اجتماعيًا وإعلاميًا، يتابع المواطن الأردني المشهد عبر الإعلام ويربطه دومًا بالقضية الفلسطينية، ما يزيد من التفاعل العاطفي والسياسي مع التطورات. ويبرز اليوم جيل رقمي جديد، يعبّر عن مواقفه بوسائل غير تقليدية، ويكشف وعيًا متناميًا بازدواجية المعايير الدولية تجاه “الضحايا” و”الحقوق”.
في المحصلة، يظل الأردن في موقع بالغ الحساسية، يحاول تثبيت توازنه وسط منطقة لا تتوقف عن التغيّر والاشتعال.
الموقف الأردني الرسمي:
يتبنى الأردن سياسة “النأي الحذر” في مقاربته للصراع المحتدم بين إيران وإسرائيل. فهو لا ينحاز لأي طرف، ولا يتورط في تحالفات قد تزعزع استقراره أو تمس بوصلته الأخلاقية.
يعتمد خطاب الأردن الرسمي على ثلاث ركائز: الدفاع عن حل الدولتين كمسار سلام عادل، رفض زعزعة الاستقرار الإقليمي، والتأكيد على حماية أمنه القومي.
يتحرك الأردن دبلوماسيًا واستخباريًا، ويراقب ما يجري قرب حدوده، دون أن يتخلى عن دوره كوسيط مقبول من مختلف الأطراف. وقد انعكس هذا التوجه في مواقف وزير الخارجية الأردني ضمن المحافل الدولية، وفي تنسيقه المستمر مع وزراء خارجية دول الجوار لتفادي الانزلاق نحو حرب مفتوحة.
وتجلّى هذا النهج بوضوح في كلمة جلالة الملك عبد الله الثاني أمام البرلمان الأوروبي، حيث قال:
“اليوم، يبدو عالمنا في حالة انحدار أخلاقي، ولا شيء يُجسّد ذلك أكثر من غزة.”
ودعا جلالته إلى وقف الحرب، وإنقاذ المدنيين، ورفض ازدواجية المعايير، مشددًا على أن الكرامة لا تتجزأ، وأن أي سلام لا ينبني على العدالة، ليس إلا هدنة مؤقتة.
في مشهد دولي مشوّش، حيث تُشترى التحالفات بالمليارات، حافظ الأردن على موقعه كصوتٍ عقلاني وأصيل، يوازن بين الحكمة والشرعية، ويُذكّر بأن الدبلوماسية حين تقودها القيم، تكون أداة إنقاذ لا أداة مساومة
كيف يرى المواطن الأردني هذا الصراع؟
رغم التباين في المواقف بين من يرى في إيران قوة مقاومة، ومن يراها خطرًا توسعيًا طائفيًا، وفئة ثالثة تكتفي بالدعاء للمنطقة بـ”السلام”، إلا أن ما يطغى اليوم هو شعور بالإنهاك السياسي والقلق الوجودي المتجدد.
المواطن الأردني لا يستطيع أن يفصل نفسه عن مشاهد الدمار التي أحدثتها إسرائيل في غزة: أشلاء الأطفال، قصف المستشفيات، الحصار والتجويع، وما جرى في لبنان وسوريا والعراق واليمن. هذه المشاهد المتكررة تُبقي الجمر متقدًا في القلب منذ نكبة فلسطين، وتمنعه من الحياد أو اللامبالاة.
ورغم التعب، لا يغيب عنه الشعور بالخطر، بل يتعمق الحذر:
يشعر بتهديد وجودي حقيقي، ورفض قاطع لأي مشروع تهجير للفلسطينيين من الضفة الغربية أو غزة نحو الأردن أو غيره، ويخشى من سيناريوهات تُحاك في الظلام، ربما لإعادة رسم خرائط المنطقة على حسابه.
ويتساءل بمرارة: لماذا تستعدي إسرائيل شعوبًا جديدة؟ هل تظن أنها بذلك تستعجل مقدم المسيح؟ أم أنها تستدرج يأجوج ومأجوج لتفتح على نفسها باب النهاية؟
وما يضاعف خيبته أن إسرائيل لا ترى في شعوب المنطقة أي تهديد جدي لوجودها.
خاتمة:
ما المطلوب اليوم؟
تشتعل المنطقة بصراعات متعددة الوجوه: حرب بلا إعلان، لكنها محسوسة في كل بيت، وسارية في كل جبهة.
من السايبر إلى الإعلام، ومن الميليشيات إلى الاقتصاد، لم تعد الحرب ترتدي زيّها التقليدي، بل تسلّلت إلى تفاصيل الحياة اليومية.
يراقب الإنسان العادي إيقاع الضربات المتبادلة، التي تتفاوت حدّتها، بينما تصدح أجهزة الإنذار فوق رؤوسنا، وتثور وتهدأ القنوات الدبلوماسية. في الخلفية، تتابع القوى الصاعدة – كروسيا والصين والدول المحيطة بإيران – المشهد بحذر.
فهل تكتفي إسرائيل بكبح قوة إيران؟ أم أن أطماعها تتجاوز ذلك؟
في زمن تنتقل فيه موازين القوة من واشنطن إلى بكين، وتُعاد كتابة قواعد الصراع من تل أبيب إلى طهران، يحتاج الأردن إلى رؤية استراتيجية لا تُراهن فقط على الحذر، بل على إعادة تعريف دوره، ليس كمنطقة عازلة، بل كقوة إقليمية ناعمة تجمع بين الحكمة والمبادرة.
أما الأردن، فيواصل تعزيز جبهته الداخلية، وممارسة انفتاح سياسي متزن، وتحويل نبض الشارع إلى طاقة دبلوماسية مرنة، لأن البقاء في منطقة كهذه… مرهون بحسن التقدير.
لكنّ الشارع لم يفقد بعد حسّ الدعابة، فصديقٌ ما أرسل لي ما يُقال إنه خبر عاجل:
“ارتفاع أسعار الفقّوس!”
ترى… هل يهدّد ذلك وجود أحدهم؟
سعيد ذياب سليم