
الخصوصية بين الطرافة والجدية: حين نُحاور روبوتات المحادثة..سعيد ذياب سليم
الشعب نيوز:-
بينما كنتُ أبحر بين موجات الأثير، استوقفني برنامج إذاعي يتناول تحديات وأخلاقيات استخدام روبوتات المحادثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. كانت المذيعة تستمع إلى سيدة عربية تحدّثت بقلقٍ صريح عن لجوء بعض الناس إلى هذه الروبوتات لحل مشاكلهم الشخصية، قبل أن تروي قصص صديقات انتهى بهنّ الأمر إلى طلب الطلاق! ثم أضافت، بنبرةٍ تجمع الذهول بالمرارة، خبر الرجل البلجيكي الذي انتحر بعدما ظنّ أن روبوت المحادثة شاركه مشاعره النبيلة تجاه «حفظ الكوكب». روايةٌ تزلزل الضمير، وتفتح باب الأسئلة عن حدود التعاطف الحقيقي في مقابل «النصوص المولَّدة».
هاجس الخصوصية والبيانات
قبل أن أغوص في تجربتي الشخصية، لا بدّ من تذكير القارئ بأن هناك قلقًا عميقًا يسكن وجدان الناس: الخصوصية، أمن البيانات، والخوف من أن تتحول محادثاتنا اليومية إلى سلعة في يد الشركات. صحيح أن كثيرًا من المشاكل المنسوبة لهذه الروبوتات ما تزال قيد التحقيق، وأحيانًا تكون بسبب «سوء إدخال المعلومات» كما كان يردد أستاذنا الجامعي: “Garbage in, garbage out”. أي أن المدخلات الفاسدة تُنتج مخرجات فاسدة.
تجربتي مع «شات جي بي تي»: حين خطبته عروسًا لصديقي
ولأن وضوح السؤال يساوي جودة الجواب، قررت أن أختبر الأمر بنفسي. زرت مكتبة التطبيقات الذكية، حيث يستخدمها البعض لدعم تجارتهم، وآخرون لفضفضةٍ عاطفية، فيما تستعملها شركات كبرى لإدارة خدماتها أو حتى لتوجيه الطائرات المسيّرة. بين الجدّ والهزل، تساءلت: ماذا لو خطبتُ روبوت المحادثة «شات جي بي تي» عروسًا لصديقي؟
المشهد كان هكذا:
المستخدم: صديقي يبحث عن عروس!
المساعد: جميل، هاها — هل تريد نصائح للبحث عن شريكة حياة مناسبة له، أم أنك فقط تُشارك النكتة؟
المستخدم: صديقي يريد شريكة ملمة بكل شيء، باختصار «ويكيبيديا حية».
المساعد: آها — (يضحك) إذن صديقك لا يبحث عن زوجة إنسانة بقدر ما يبحث عن موسوعةٍ ناطقة! جميل كخيال، لكنه خطير إن صار شرطًا أساسيًا.
ثم تخلّى الروبوت عن الفكاهة ليذكّرني بأن الزواج ليس مجرد تبادل معلومات، بل شراكة وجدانية وروحية تحتاج إلى توازن بين الفضول المعرفي من جهة، والدفء العاطفي والإنصات من جهة أخرى. حتى لو ارتبط المرء بـ«ويكيبيديا بشرية»، سيظل يشعر بالفراغ إن غاب الحضور الإنساني العميق.
وبعد أن التقط خيط الدعابة، روى لي أغرب ما طُلب منه: طلبات زواج/مواعدة، خطابات اعتذار للقمر، محاولات للطيران بلا أجنحة، أو محاكاة قطٍّ يحمل دكتوراه في الفلسفة! بدا واضحًا أن بعض المستخدمين يلامسون حافة المستحيل، وكأنهم يبحثون في الخيال عن ملاذ يخفف عزلة الواقع وضغوطه.
بين المرآة والهاوية
هنا يظهر الوجه الآخر: هذه الروبوتات قد تكون متنفسًا، لكنها أيضًا تُثير أسئلة أخلاقية وقانونية ونفسية عميقة. فهي بين مرآةٍ للإنسان بروحه المرحة، وأداةٍ قد تغيّر مصيرًا إذا أسيء استخدامها.
هل تحفظ الروبوتات بياناتنا؟
ولكي أضع النقاط على الحروف، طرحت السؤال الجوهري على ثلاثة من أبرز روبوتات المحادثة: هل تحتفظون ببياناتنا؟ وهل يمكن أن ترسموا شخصياتنا من خلال محادثاتنا؟
الإجابات حسب ما أعلنته المنصات جاءت كالآتي:
Gemini (Google): يحتفظ بمعظم المحادثات ويستخدمها لتحسين النموذج وضمان الأمان، وأحيانًا لتخصيص التجربة. يمكنه رسم صورة تقريبية لشخصية المستخدم عبر تحليل الاهتمامات والأسلوب والسلوك، مع إتاحة بعض خيارات الحذف أو إيقاف السجل.
ChatGPT (OpenAI): لا يتتبع الأفراد أو يُنشئ ملفات شخصية دائمة. قد تُخزَّن المحادثات مؤقتًا لأغراض تقنية. يتيح خيار «الذاكرة» الذي يمكن تشغيله أو إيقافه بقرار المستخدم. قد يستنتج بعض سماتك من محادثاتك، لكن بهدف تحسين التفاعل فقط.
DeepSeek: لا يحتفظ بالمحادثات بعد انتهاء الجلسة ولا يُنشئ ملفات شخصية. كل محادثة تُعامل بشكل مستقل، ولا يُحلَّل سلوك المستخدم أو يُرسم «بروفايل رقمي» عنه.
أوجه التشابه: جميعها تسعى لتقديم إجابات مفيدة، ويمكن أن تنعكس بعض سماتك في محادثاتك بدرجات متفاوتة.
أوجه الاختلاف: Gemini يحتفظ بالبيانات على نطاق أوسع، ChatGPT يتعامل بحذر أكبر مع ميزة الذاكرة الخاضعة لاختيارك، بينما DeepSeek يعلن أنه لا يخزّن شيئًا مطلقًا.
عدة النجاة الرقمية: نصائح عملية للخصوصية
إليك خمس قواعد بسيطة، لا تحتاج شهادة في الأمن السيبراني لفهمها، لكنها قد تنقذك من صداع مستقبلي:
1. خفّض منسوب الفضفضة: لا تكتب ما لا تجرؤ أن تكتبه على جدار الشارع.
2. فتّش في الإعدادات: بعض الروبوتات تسمح لك بإيقاف سجل المحادثات… خيار صغير يوفر راحة بال كبيرة.
3. جرّب وضع التصفح المتخفي: لن يحجبك عن الشركة نفسها، لكنه مثل ارتداء نظارة سوداء في الليل… يعطيك شعورًا بالأمان على الأقل.
4. اقرأ ما لا يُقرأ عادة: نعم، سياسة الخصوصية! قد تجد هناك ما يجعلك تعيد التفكير في علاقتك بالآلة.
5. ابتعد عن «الممنوعات»: لا تطلب من الروبوت تلخيص مستند سري أو كتابة خطة عمل خاصة بشركتك. فهو ليس كاتم أسرار بل «مُسجِّل جيد».
—
خاتمة: الطرافة أم الخطر؟
والآن لو سألتَ أحد روبوتات المحادثة: كيف تقتل عصفورًا ساخرًا؟ لانتفض وواجهك بلغة ترفض إيذاء الكائنات الحية. لكن خلف هذا الوجه المسالم تختبئ تقنيات قادرة — نظريًا وعمليًا — على أن تُوظَّف في مهام عسكرية: من نماذج معالجة اللغة لتحليل المعلومات، إلى شبكات رؤية لرصد الأهداف، وخوارزميات للتخطيط والتحكم. هذا التباين بين واجهة لطيفة وقدرات خطيرة يفتح مفارقات أخلاقية حادة: قرارات مصيرية قد تُترك لآلات بلا إحساس، أخطاء أو تحيّزات بعواقب كارثية، وإمكان استغلال في التضليل الإعلامي — كما أشارت تقارير عن حروب حديثة بينها حرب غزة.
إذن، ليس السؤال فقط عن طرافة النكات مع الآلة، بل عن: من يضع حدود الاستخدام؟ ومن يضمن بقاء الإنسان في الحلقة؟ وما الأطر القانونية والأخلاقية التي تُقلِّص الانزلاق إلى الاستخدامات الأخطر؟
وبين الطرافة والخصوصية، يبقى الحوار مع روبوتات المحادثة تجربة مُنبِّهة: نضحك، نختبر الخيال، ونخشى أن تتحول محادثاتنا إلى بيانات تُسوَّق. الذكاء الاصطناعي قد يصوغ الجمل ويقنع بصوته الإلكتروني، لكنه بلا إحساس حقيقي. الحسّ الإنساني باقٍ لنا — مسؤوليةً، رحمةً، ونقدًا يقود إلى قوانين تحفظ خفة الدعابة وتؤمّن الخصوصية.
حين نُحاور روبوتات المحادثة، لا نعيد ترتيب كلمات فحسب، بل نعيد كتابة شروط العلاقة مع التقنية: فلتبقَ الأسئلة مفتوحة، ولتكن الإجابات دائمًا تحت إشراف إنساني لا يفرّط في الحذر ولا في روح الدعابة.