
مجلة الجياد العربية….حين يترجل الإبداع على صهوة اللغة والفكر
الشعب نيوز:-
بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
يأتي العدد التاسع من مجلة الجياد العربية كتحفةٍ فنية وأدبيةٍ راقية، تبرهن أن الكلمة حين تُكتب بشغفٍ، وتُنسَّق بذوقٍ، وتُقدَّم بعقلٍ مبدعٍ، تتحوّل إلى لوحةٍ ناطقةٍ بالجمال والإتقان. فمنذ اللحظة الأولى التي تقع فيها عين القارئ على غلاف المجلة، يدرك أنه أمام عملٍ متكاملٍ نُسج بخيوط الدقة والإبداع؛ ألوانٌ متناغمة تعبّر عن فكرٍ متوقد، وتصميمٌ احترافيّ يشي بذوقٍ رفيعٍ، وتنسيقٌ بصريّ يأسر النظر قبل أن يلامس القارئ سطورها.
لقد جاءت المجلة في هذا العدد قمّةً في التميز والإتقان، بفضل الجهود العظيمة المبذولة في إعدادها، بدءاً من التخطيط التحريري الواعي، مروراً بحسن اختيار الموضوعات وتنوّعها بين الفكر والأدب والنقد والترجمة والإبداع الشعري والنثري، وصولاً إلى التنفيذ الفني المتقن الذي منح المجلة هويةً خاصةً ومكانةً متميزة بين نظيراتها. هذا التنوع لم يكن مجرّد عرضٍ لمواد أدبية، بل كان انعكاساً لثراء الثقافة العربية، وتأكيداً على أن الإبداع لا وطن له إلا في رحاب الفكر الحر واللغة الجميلة.
ولا يمكن الحديث عن هذا التميّز دون أن نرفع القبعات إجلالاً وتقديراً لرئيس التحرير الأستاذ الكاتب سامر المعاني، الذي يقود المجلة بعين الناقد وبصيرة الأديب، جامعاً بين الرؤية الفكرية العميقة والذوق الجمالي الرفيع. إنه لا يدير مجلةً فحسب، بل يقود مشروعاً ثقافياً عربيًا يطمح إلى ترسيخ مكانة الأدب والفكر في زمنٍ تتزاحم فيه الضوضاء الإعلامية. ويُحسب للأستاذ المعاني أيضاً الحوار الرائع الذي أجراه مع الناقد سليم النجار حول أهمية المزاج في النص الأدبي، وهو حوار من الطراز الرفيع، جمع بين العمق الفلسفي والبعد الجمالي، وفتح آفاقاً جديدة في فهم العلاقة بين الحالة النفسية للكاتب وإبداعه الأدبي. ذلك الحوار كان قمّة في الوعي والطرح والنقاش الراقي، ليؤكد أن مجلة الجياد ليست فقط منبرًا للنشر، بل مختبر فكري عميق للجدل الإبداعي الحقيقي.
ولا يقل دور الكاتبة الأستاذة إيمان القيسية – مدير التحرير أهمية عن ذلك؛ فهي الروح الهادئة التي تبثّ الحياة في جسد المجلة، صاحبة اللمسة الأنثوية الرقيقة والحضور القوي في آنٍ معاً. في كل زاوية من زوايا العدد، تلمح بصمتها في حسن التنظيم ودقة الاختيار وانسيابية العرض. هي نموذج للقيادة الأدبية المتوازنة التي تجمع بين الحزم والجمال، وبين الفن والإدارة.
أما هيئة التحرير، فهي القلب النابض الذي يمنح المجلة حيويتها وتفرّدها. كلّ عضوٍ فيها يشكّل خيطاً في نسيجٍ أدبيٍّ مترفٍ بالألوان والأفكار:
الأديبة تغريد بومرعي أبهرت القرّاء بترجمتها الراقية والدقيقة في قسم ترجمة القصائد، خصوصاً في قصيدة “القصيدة التي لم أكتبها لك”، حيث أظهرت براعتها في نقل الإحساس لا الكلمات فحسب، مجسّدةً الترجمة بوصفها إبداعاً موازٍ للنص الأصلي.
الأديبة عبير العطار أضافت عمقاً إنسانياً وحسّاً أدبياً رفيعاً ، بلغةٍ تتأرجح بين البساطة والعمق، وتغوص في جوهر المشاعر الإنسانية.
الشاعرة نهى عمر منحت المجلة نسمات شعرية رقراقة، تفيض عذوبةً وصدقاً، وتجعل القارئ يعيش القصيدة لا يقرؤها فقط.
الكاتبة ميسون الباز والكاتبة أريج صافي أضفتا لمسات فكرية وأنثوية رائعة، تتنوّع بين التأمل والسرد الأدبي الرشيق.
الشاعر وليد أبو لجين كان حضورُه إضافةً جماليةً مميزة، إذ جعل القصيدة تنبض على صفحات المجلة بحيوية وصدقٍ وشاعريةٍ عميقة.
إن هذا الفريق المبدع جسّد أسمى صور العمل الجماعي الثقافي، حيث تتعانق الأقلام وتتلاقى الرؤى لتشكّل نسيجاً أدبياً متكاملاً قوامه الاحتراف والذائقة الرفيعة.
أما من حيث المضمون الفكري، فقد تميّز العدد التاسع بجرأته في تناول قضية معاصرة في غاية الحساسية: “الإعلام والمخدرات”. فقد تناول المستشار نصري القيسية هذه القضية بمقالٍ تحليليٍّ عميقٍ حمل عنوان “الإعلام مروّج للمخدرات لا تتم محاكمته”. جاء المقال كجرس إنذار يقرع الضمائر، إذ أضاء على خطورة الاستخدام غير المسؤول للإعلام حين يركّز على الإثارة بدل التوعية، فيتحول من وسيلة تنوير إلى أداة ترويجٍ غير مباشرٍ لآفةٍ تهدّد المجتمع. المقال يُعد نموذجاً للنقد الاجتماعي الجاد، بلغةٍ واعيةٍ ومسؤولةٍ، تستفزّ الفكر وتدفع القارئ لإعادة النظر في الدور الإعلامي وغاياته.
وفي زاوية النقد السينمائي، قدّمت المجلة قراءةً مبهرةً لفيلم “التحرير” للنجم العالمي ويل سميث المستوحى من قصة “جوردن” العبد الذي تحوّل إلى محاربٍ في سبيل الحرية. تناول التحليل السينمائي الفيلم من زاويةٍ فلسفيةٍ وإنسانيةٍ، مركّزاً على رمزية التحرر ومفهوم الكرامة الإنسانية. القراءة لم تكن سرداً لأحداث الفيلم، بل رحلة فكرية تأملية في فلسفة الحرية والتمرد على القيد، مما يعكس وعي كتّاب المجلة بقدرة الفن على التعبير عن القضايا الكبرى.
أما ملف العدد، فحمل بين صفحاته مجموعة من المواضيع الشيّقة المتنوعة التي تُدهش القارئ بعمقها وتنوّعها، فتأخذه في جولةٍ فكريةٍ حول العالم العربي من خلال أقلامٍ راقيةٍ وأصواتٍ أدبيةٍ متجددة.
ومن الجماليات التي تستوقف القارئ في هذا العدد، الحضور الراقي للغة الإنجليزية إلى جانب اللغة العربية، في انسجامٍ لغويٍّ بديع. هذه الازدواجية لم تكن ترفاً شكلياً، بل جسراً ثقافياً واعياً يربط بين الثقافتين العربية والعالمية، ويجعل المجلة أكثر شمولاً وتأثيراً على القارئ العربي والأجنبي معًا.
أما من الناحية الفنية، فإن تنسيق المجلة يرقى إلى مستوى الجمال الفني الخالص؛ الألوان متناغمة، العناوين مصمّمة بذوقٍ وأناقة، والهوامش نظيفة مريحة للعين. كل صفحةٍ تنبض بالحيوية وتدعو القارئ إلى البقاء في حضرة الكلمة. لا مبالغة في الزخرفة، ولا ملل في التكرار، بل تناغم بصري ولغوي متكامل يجعل من القراءة تجربة جمالية بامتياز.
ولعل من أجمل ما يميز هذا العدد أن مجلة الجياد العربية تأخذ القارئ في رحلةٍ أدبيةٍ عبر العالم العربي، فيطوف بين عوالم الشعر والقصص والترجمة والنقد، متنقّلاً بين أقلامٍ من مختلف الدول العربية. فنقرأ للشاعر المصري محمود يحيى قصيدته الرقيقة “ساعات”، وللشاعرة ريهام عبدالله من مصر قصيدتها “صعيدي” التي تنبض بروح الجنوب الدافئة، وللشاعر إسلام علقم قصيدته المعبّرة “يا ياسمين… لمن تعيش؟”، فضلاً عن مساهمات كتّابٍ صاعدين من سوريا واليمن ومصر وغيرها من البلدان العربية، ما يجعل من الجياد منصة حقيقية لاكتشاف المواهب الجديدة وصقلها.
إن العدد التاسع من مجلة الجياد العربية ليس مجرد إصدارٍ ثقافيٍّ جديد، بل هو حدث أدبيّ وفكريّ متكامل، ومرآة صادقة لروح الأدب العربي الحديث في أبهى تجلياته. فهو يجمع بين الأصالة والحداثة، بين التراث والإبداع، ويبرهن أن اللغة العربية قادرةٌ – متى وُظّفت بحبٍّ ووعيٍ – على أن تُدهش وتُلهم وتُنير.
وفي الختام، يمكن القول إن مجلة الجياد العربية بهذا العدد الفخم قد ترسّخت كمنبرٍ رائدٍ للفكر والأدب والفن العربي، تجمع بين الجمال والمعرفة، وتكرّس قيم الذوق والوعي والإبداع. إنها مجلةٌ لا تُقرأ فحسب، بل تُعاش كرحلةٍ ثقافيةٍ راقيةٍ في سماء الإبداع العربي.