
الثمن الباهظ الذي يدفعه الطبيب ولا يدركه العامة! بقلم: الدكتور محمد حسن الطراونة عضو مجلس نقابة الأطباء الأردنية
الشعب نيوز:-
بقلم: الدكتور محمد حسن الطراونة
عضو مجلس نقابة الأطباء الأردنية
أن تختار مهنة الطب والجراحة، أو أي من المهن الطبية السامية، يعني أنك قد ارتضيت لنفسك طريقاً يتطلب ثمناً غالياً، لا يُقاس بالجهد المادي فحسب، بل يتجاوزه إلى التضحيات الإنسانية والاجتماعية التي لا يدرك عمقها إلا القليل من العامة.
يستهلك هذا الطريق سنين طويلة من العمر تبدأ بالدراسة الجامعية المنهكة التي تمتد لسبع سنوات في الكلية، تليها سبع سنوات أخرى أو يزيد من الدراسات العليا والتخصص (الماجستير، والدكتوراه، والزمالة، والاختصاص)، ناهيك عن الالتزام الحتمي بالاطلاع المستمر ومواكبة الأبحاث والمؤتمرات الدولية والنشر العلمي.
إن هذه التكاليف، من مال ووقت وجهد، معروفة للجميع، أو على الأقل لمن يتحلى ببعض العقلانية والإدراك. ولكن، هناك ثمن آخر، خفي ومؤلم، لا يراه ولا يشعر به المجتمع إلا قليلاً.
التأثير المزلزل على الحياة الخاصة للطبيب
لقد تناولت الأبحاث العلمية، ومنها مقال صادر عن مجلة كلية الجراحين الملكية البريطانية الذي أجرى بحثاً معمقاً على الجراحين في إنجلترا، وعدد من الدراسات الأخرى التي شملت الأطباء في مختلف بقاع العالم، هذا الجانب المظلم. وقد كشفت هذه الأبحاث عن حقائق صادمة تستوجب وقفة نقابية ومجتمعية حازمة:
* التفكك الأسري: تُشير الدراسات إلى أن ما بين 80% إلى 90% من الجراحين يتعرضون لمشكلات أسرية قد تصل إلى الطلاق، وذلك نتيجة التقصير القسري والمستمر في حقوق الأزواج والزوجات والأبناء، بسبب طبيعة المهنة التي تفرض الحضور الطارئ والمفاجئ.
* الإجهاد النفسي والاحتراق الوظيفي: يتعرض 60% من الأطباء لضغوط نفسية وعصبية شديدة ومستمرة، وهو ما يُفضي إلى الإصابة بالاكتئاب الحاد والعديد من الاضطرابات النفسية الأخرى.
* الاعتلالات العضوية: يُصاب نحو 65% من الأطباء بأمراض عضوية مزمنة، مثل داء السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، وهي أمراض تُعزى في جزء كبير منها إلى الضغط النفسي والعصبي المتواصل الذي يلازمهم في العمل.
* الأعباء المالية المتراكمة: يُعاني ما يقارب 70% من الأطباء من مشكلات مالية، جراء الأعباء المالية الباهظة اللازمة لاستكمال مسيرة التعليم والتدريب والتخصص. وإذا كان هذا هو الحال في إنجلترا، فكيف بنا في بلادنا العربية، وفي الأردن على وجه الخصوص، حيث تتفاقم التحديات الاقتصادية على كاهل الطبيب الشاب!
* الغياب عن الحياة: يُحرَم معظم الأطباء من حضور العديد من المناسبات العائلية والمجتمعية الهامة (أفراح، أتراح، ولادات، تخرج)، بسبب الانشغال القاهر في المستشفيات والمراكز الصحية، وصعوبة الحصول على إجازة أو إذن حتى في أحلك الظروف العائلية.
* الندم المهني والأماني العكسية: أظهرت دراسات أن 30% من الأطباء في شمال أمريكا يتمنون لو أنهم لم يلجوا مجال الطب أصلاً، بل وينصح الكثير منهم أبناءه بضرورة تجنب هذه المهنة الشاقة.
* خطر الانتحار: للأسف، تُسجل نسبة الانتحار بين الأطباء في العالم الأعلى مقارنة بباقي الوظائف والمهن، خاصة بين الجراحين وأطباء التخدير، في دلالة واضحة على عمق المأساة والإرهاق الذي يعيشونه.
إنني كطبيب وعضو مجلس نقابة الأطباء ،نُدرك حجم التضحيات الجليلة التي يقدمها زملاؤنا الأطباء، لنشدد على أن هذه المهنة ليست مجرد وظيفة، بل هي رسالة وطنية وإنسانية نبيلة، يُقدم الطبيب في سبيلها أغلى ما يملك: صحته ووقت عائلته واستقراره النفسي.
وفي هذا السياق، نستذكر قول سيد البلاد، جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، الذي يؤكد على أن “العاملين في القطاع الصحي هم خط الدفاع الأول عن صحة وسلامة أبناء الوطن، وتضحياتهم وجهودهم محل فخر وتقدير دائمين.”
إن هذا التأكيد الملكي يضاعف من مسؤوليتنا النقابية والمجتمعية لإدراك هذا الثمن الخفي، وأن نُقدِّر الجهود المضنية التي تُبذل في سبيل الحفاظ على صحة وسلامة المواطن الأردني. ونطالب بضرورة العمل على تحسين بيئة العمل وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي والمادي اللازم للأطباء، لكي يتمكنوا من الاستمرار في أداء رسالتهم بكل كفاءة واقتدار.
إن واجبنا النقابي يحتم علينا أن نكون صوت الطبيب، وأن نُسلط الضوء على هذه التكاليف الخفية، التي باتت تُهدد جودة حياة العاملين في القطاع الصحي، وتستوجب منا جميعاً، كأردنيين، الالتفاف حول هذه الكوادر الوطنية الرائدة.