فلسطين قصة وطنٍ حزين يبدأ بوعد غامض وينتهي بحلول أشد غموضًا م. سعيد بهاء المصري

الشعب نيوز:-

لم يكن التاريخ يومًا رحيمًا بفلسطين. فمنذ اللحظة التي وُقّع فيها وعد بلفور في الثاني من تشرين الثاني 1917، بدأ خيط الحكاية يتشكل على نحو غامض، غموضٍ لم يكن بريئًا، بل كان مقصودًا بحيث تُفتح الأبواب واسعة أمام مشروع لا يرى في الشعب الفلسطيني سوى تفصيل لا يستحق الذكر. صيغة الوعد التي تعهّد فيها وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور بإنشاء «وطن قومي لليهود في فلسطين» تضمنت جملة أصبحت مفتاحًا لمعاناة شعب: «على ألا يُنتقص شيء من الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين». لم يتحدث الوعد عن حقوق سياسية، ولم يذكر شعبًا له جذوره الممتدة في الأرض منذ ألفيات، مسلمًا أو مسيحيًا أو يهوديًا يعيشون معًا. كانت تلك الصيغة الغامضة التأسيس الأخطر لطمس كيان شعب بكامله، شعب لم يكن يعلم أن غموض الكلمات سيتحول لاحقًا إلى مسار كامل من التهميش والإزالة.
بعد سنوات قليلة، وتحديدًا في عام 1922، اعتمدت عصبة الأمم صك الانتداب البريطاني على فلسطين، مثبتة في وثيقة دولية ما جاء في وعد بلفور، ومانحة بريطانيا سلطة إدارة الأرض تحت مسمى «الانتداب» الذي كان يفترض أن يهيئ الشعوب لحكم نفسها. لكن فلسطين لم تُهَيّأ إلا للغُرباء عنها. وعندما دخل صك الانتداب حيّز التنفيذ عام 1923، بدأ زمن جديد سيستمر حتى الخامس عشر من أيار 1948، عند منتصف الليل تمامًا، حين أنهت بريطانيا وجودها بطريقة أحادية قبل ساعات من إعلان الدولة العبرية، تاركة وراءها فراغًا قانونيًا وسياسيًا لم يسبق له مثيل.
عصبة الأمم التي شرّعت الانتداب انتهت رسميًا عام 1946، بعد اغتيال أمينها العام الكونت برنادوت في القدس على يد عصابات صهيونية. ومع نهاية العصبة لم يعد هناك من هيئة دولية «أم» يمكن أن تُسند إليها مسألة الانتداب أو تقرر مصيره. وهكذا بقيت فلسطين معلّقة بين نظام دولي انتهى، وقوة استعمارية تستعد للمغادرة، وشعب تُرك في العراء السياسي. ثم جاءت الأمم المتحدة، التي لم تُنهِ الانتداب، ولم تتسلّم فلسطين، واكتفت بإصدار قرار التقسيم 181 في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1947، وهو قرار أوصى فقط ولم يفرض، ولم يحدد آلية تنفيذية حقيقية، ولم يراعِ واقع الشعب الفلسطيني الذي كان غائبًا عن طاولة القرار، لا ممثلًا ولا مسموعًا، بينما كانت الحركة الصهيونية جاهزة لكل التفاصيل.
وبينما كانت الأمم المتحدة تتجادل في الصيغ، كانت الجامعة العربية غارقة في مناكفاتها، عاجزة عن اتخاذ موقف موحّد، بل إن خلافاتها الداخلية ساهمت في إضاعة ما تبقى من فرص حماية فلسطين. كانت اللحظة مفصلية، لكن العرب كانوا في وادٍ آخر، يختلفون على الزعامة والريادة فيما كانت الحركة الصهيونية تمسك بخيوط المشهد تمهيدًا لولادة دولة إسرائيل. لم تكن الخسارة نتيجة قوة الخصم فقط، بل نتيجة تراكم الكيدية العربية العربية، التي منحت الآخرين فرصة ذهبية ليكتبوا قدر فلسطين.
وفي ليلة الخامس عشر من أيار 1948 انتهى الانتداب البريطاني رسميًا، لم تُصدر الأمم المتحدة قرارًا بإلغائه، ولم تُقم وصاية جديدة، ولم تتسلم الأرض أي سلطة دولية. انسحبت بريطانيا ببساطة، وتركت خلفها فراغًا انفجرت فيه الحرب الأولى، وبدأت معه مرحلة جديدة من اللجوء والضياع. وهكذا انتقل الشعب من انتداب غامض إلى تقسيم أكثر غموضًا، ومن دولة كانت ممكنة على الورق إلى مأساة صارت واقعًا.
واليوم، ونحن في السابع عشر من تشرين الثاني 2025، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، وإن كان بوجوه أخرى وأسماء مختلفة. فالأمم المتحدة نفسها التي عجزت عام 1948 عن حماية شعبٍ ذاهب إلى المجهول، تقف اليوم أمام واقع أشد قتامة، حيث لم يتبق من فلسطين التاريخية سوى 22% تتوزع بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وهما معًا يعيشان سيناريوهات تتراوح بين الاحتلال والانتداب والوصاية الديمغرافية، بينما الجغرافيا تُصادر بالكامل لصالح المستوطنين.
في غزة، منذ حرب 2023 وما تبعها من تدمير شامل، يعيش الشعب الفلسطيني على أنقاض مدينة كانت ذات يوم نابضة بالحياة. نصف القطاع الشرقي محتل بالكامل، والنصف الغربي مأهول بعائلات مدمرة نفسيًا، قُطعت عنها سبل الحياة وتحولت إلى كتلة بشرية مثخنة بالصدمة. وفي الضفة الغربية، أخذ الاحتلال يتصرف بمنهجية تقطيع الأوصال، عبر استيطان متواصل يعمل بالتناوب بين القيادة السياسية الإسرائيلية وميليشيات المستوطنين، حتى صار الحديث عن دولة فلسطينية ضربًا من الخيال، لا يستقيم مع جغرافيا تُنهش كل يوم.
وسط هذه الصورة السوداء، خرج إعلان نيويورك، ثم مبادرة العشرين نقطة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي حاولت تقديم «حل جديد» يبدو كما لو أنه ولادة ثانية لوعد بلفور، ولكن بنسخة أكثر تعقيدًا وغموضًا. فالمبادرة مليئة بالنقاط غير المترابطة، ومصاغة بطريقة توحي بأن المراد هو تثبيت وقائع لا خلق حلول. والأسوأ أن هناك جهودًا أمريكية تُبذل داخل مجلس الأمن لتمرير هذه المبادرة بعد تعديلات تُزيدها غموضًا، خاصة في ما يتعلق بحق تقرير المصير وحل الدولتين، الذي لم يعد أحد يعرف ما يعنيه أصلًا بعد أن تحولت الضفة الغربية إلى خارطة مقطعة.
الأدهى أن إسرائيل نفسها لم توافق على المبادرة، وحركة «ماجا» التي يعتمد عليها ترامب داخليًا غير متحمسة لها، والكونغرس منقسم حولها. ومع ذلك، هناك مساعٍ لإنتاج قرار دولي متسرّع قد يعيد تشكيل المشهد الفلسطيني بطريقة تخلق كائنًا سياسيًا هلاميًا، لا هو دولة ولا كيانًا مكتملًا، بل حالة رمادية تتأرجح بين انتداب أمريكي ووصاية دولية بشراكة عربية شكلية. وتبقى المخاوف الأكبر من أن يتحول قطاع غزة إلى «شطرين»: شطر يُعاد بناؤه إسرائيليًا كمنطقة سكنية مغلقة أشبه بالجيتوهات، لا تتسع لأكثر من نصف سكان غزة المتبقين، بينما يُدفع الباقون إلى التهجير الطوعي أو القسري، في سيناريو «ناعم» يُقدم على أنه إعادة إعمار، وهو في الحقيقة إعادة هندسة ديمغرافية تخدم رؤية جاريد كوشنر عن «رفييرا غزة» بعد أن تُنظَّف الأرض من الدماء والأشلاء.
فلسطين اليوم تعود إلى المربع الأول، بين وعد بلفور الذي غيّب حقوقهم السياسية، وانتدابٍ بريطاني انتهى بلا نظامٍ دولي يسنده، وتقسيمٍ أممي لم يقم منه سوى الشطر الإسرائيلي، وواقعٍ جديد يُطرح الآن تحت مسميات «حلول» لكنها في جوهرها لا تختلف كثيرًا عن صيغ الاحتلال والانتداب والوصاية. وكأن قدر الفلسطينيين أن يبدأ تاريخهم بوعد غامض وينتهي بحلول أشد غموضًا، وأن يظلوا واقفين في العراء بينما تتقاطع عليهم خرائط القوى الكبرى، مرة باسم الأمن، ومرة باسم السلام، ومرة باسم إعادة الإعمار.
ومع كل هذه التعقيدات، تبقى الحقيقة البسيطة التي لا يمكن لأي قرار أو مبادرة أن يطمسها: أن فلسطين شعب قبل أن تكون جغرافيا، وأن محاولة إعادة صياغتها كـ «قضية ديمغرافية» بدل أن تكون «قضية وطن» ليست إلا وجهًا جديدًا لذات المأساة التي بدأت قبل أكثر من قرن ولا تزال مستمرة.

قد يعجبك ايضا