
هل ينتهي صراع الجنرالات بتقسيمٍ وظيفي للسودان؟كتب محسن الشوبكي
الشعب نيوز:-
تشهد الساحة السودانية اليوم مرحلةً مفصلية تجاوزت حدود الصراع التقليدي على السلطة، لتلامس جوهر بقاء الدولة ووحدتها. فالتحولات الميدانية الأخيرة، خصوصًا في إقليم دارفور، أفرزت واقعًا جديدًا على الأرض بعد ترسيخ سيطرة قوات الدعم السريع على مناطق واسعة. لم يكن سقوط الفاشر مجرد نكسة عسكرية للجيش السوداني، بل شكّل نقطة تحول في ميزان القوى، إذ باتت المكاسب الميدانية ورقة ضغط تفاوضية محتملة للدعم السريع، تُغنيها عن المسار السياسي التقليدي وتدفعها إلى مواصلة الرهان على الحسم العسكري.
هذا التحول يعكس قناعة الطرفين بأن التعبئة العسكرية باتت أداةً أكثر فاعلية من الدبلوماسية، ما يدفع البلاد نحو استنزافٍ طويل الأمد.
تستمد قوات الدعم السريع قدرتها على الصمود من عاملين رئيسيين: اقتصاد الحرب والعمق القبلي العابر للحدود. فالذهب الذي تسيطر عليه في مناجم دارفور يمثل شريانها المالي الرئيس، يوفّر لها العملات الصعبة لتأمين الأسلحة والإمدادات دون رقابة دولية تُذكر. وفي المقابل، يمنحها الولاء القبلي — خاصة من عشائر كبرى كالرزيقات — دعمًا بشريًا وميدانيًا متينًا، ويؤمّن لها خطوط إمداد تتجاوز الحدود الإقليمية. هذا التكوين منحها قوة موازية للدولة وأضعف قدرة أي تسوية سياسية لا تعترف بهذا الواقع.
لكن هذا التفوق الميداني لا يخلو من أثمانٍ باهظة. فقد تحوّل في بعض المناطق إلى وسيلة لإعادة تشكيل البنية السكانية عبر الاقتتال العرقي المنظم، كما حدث في غرب دارفور. هذه الممارسات تجاوزت هدف السيطرة العسكرية لتصبح أداة لفرض واقع ديموغرافي جديد يُقصي المكونات غير الموالية، ما يهدد النسيج الاجتماعي ويجعل استعادة الدولة المدنية الموحدة أمرًا بالغ الصعوبة في المدى المنظور.
دبلوماسيًا، تواجه المبادرات الإقليمية والدولية مأزقًا حقيقيًا أمام موازين القوى الجديدة. فتمسّك الجيش بشروطه الصارمة يقابله شعور الدعم السريع بتفوّقٍ ميداني يحرره من الضغوط التفاوضية. ونتيجة لذلك، تزداد المسافة بين الطرفين، وتغيب القوى المدنية القادرة على كسر هذا الاحتكار المسلح للمشهد السياسي. ومع استمرار تمركز الجيش في الشمال والشرق مقابل سلطة أمر واقع للدعم السريع في الغرب وأجزاء من الوسط، تتشكل تدريجيًا حدودٌ غير معلنة بين كيانين متنافسين — ما يشبه “تقسيمًا وظيفيًا” حيث يحتفظ كل طرف بإدارته وأجهزته ضمن دولة واحدة اسمًا، من دون وحدةٍ فعلية في القرار أو المؤسسات.
في ظل هذا الانقسام، يصبح خطر تفكك السودان أكثر واقعية من أي وقت مضى. فاستمرار الحرب بموارد الذهب والدعم الخارجي، إلى جانب الانقسام القبلي، يعمّق الاستقطاب ويقوّض فرص التعايش الوطني. ومع ذلك، لا تزال هناك نافذة ضيقة للأمل: يمكن للمجتمع الدولي، إن استخدم أدوات ضغط حقيقية لتجفيف مصادر تمويل الحرب وفرض رقابة ميدانية فعالة، أن يمهّد الطريق لاستعادة العملية السياسية.
إن مستقبل السودان يتوقف على قدرة القوى الإقليمية والدولية، ومعها النخب المدنية، على تحويل ميزان “السلطة بالقوة” إلى توازنٍ للنفوذ تحت مظلة الدولة. فإما أن تُستعاد الدولة الموحدة عبر تسوية شاملة، أو أن يدخل السودان مرحلة من “التقسيم الهادئ” تُعيد رسم خريطة المنطقة برمّتها.