
العَتَمَة: مَلاذٌ وظِلال,,سعيد ذياب سليم
الشعب نيوز:-
أولاً: طُقُوس العُزْلَة في الظَّلماء
كَمَقْعَدٍ مَهجورٍ على شاطئٍ خالٍ، لا يُشاغِلُهُ سوى ضَجِيجِ المَوْجِ وهُوَ يَرتَطِمُ به، أجْلِسُ في الظَّلماء.
كَطائرٍ تَرَكَهُ السِّرْبُ وسَافَرَ نَحْوَ الجَنُوب، وبَقِيتُ وَحيداً في كَنَفِ الصَّمْتِ العَميق. تُحيطُ بي آلافُ الخُطُواتِ المَطْبُوعَةِ كَوَشْمٍ غِجْريٍّ على صَفْحَةِ خَدِّ الأرْض. أجْلِسُ مُؤَدِّيًا طُقُوسَ العُزْلَةِ التَّامَّة، يَغْمُرُني لَونُ العَتَمَةِ ويُبَلِّلُني بالسُّكُون.
دَوَّامَةُ اللَّيلِ تَسْحَبُني إلى الأعماق، تَخْتَبِئُ مِنّي الأَشْيَاءُ والأحياء. وفي هذا العُمْق، لا يَظْهَرُ لي إلّا الكائِناتُ اللَّيْلِيَّة: الأرْواحُ الهَائِمَة، والأَطْيَافُ التَّائِهَة، والأَفْكارُ الشَّيْطَانِيَّةُ الصَّغيرةُ التي تَتَسَلَّلُ بِهُدُوء.
كُوبُ قَهْوَتي، كُوبُ المَساء، يُحَدِّقُ بي بِمَلَلٍ مَكْبُوت. أتَناوَلُهُ كُلَّما سَمِعْتُ آهاتِهِ، أشُدُّ مِن عَزِيمَتِهِ وأُهَدْهِدُهُ لِيَصْبِر؛ فاللَّيْلُ طَوِيل.
وحِينَ يَبْتَلِعُ الجَبَلُ آخرَ خَيْطٍ مِنَ النَّهار، تَتَجَمَّعُ الكائِناتُ اللَّيْلِيَّةُ على الأرْض: الذِّئابُ الصَّغيرة، والكِلابُ الضَّالَّة، وابنُ آوَى، والقِطَطُ الجَائِعَة. وفي الوِدْيَانِ البَعِيدةِ وخَلْفَ النَّوافِذ، تَتَجَمَّعُ أيضاً الكائِناتُ ذاتُ الحَجْمِ الأكْبَر. هُنا، يُمَارِسُ كُلٌّ طُقُوسَهُ الخَاصَّة. فالبعضُ يَتَأمَّلُ ويَكْتُبُ الشِّعْر، والبَعْضُ يَتَألَّمُ بِصَمْت، والبَعْضُ يُنَاجِي اللهَ بِصَوْتٍ مَجْرُوح، يَكَادُ يُوقِظُ رُؤَى بَناتِ الجَان.
ثانياً: ذاكِرَةُ العَتَمَةِ وخَيَالاتُها
كانَتِ العَتَمَةُ في الماضي تَحْكُمُ طُرُقَاتِ القُرَى وأزِقَّتَها؛ فَتَسْتُرُ الخَيَالاتِ المُوحِشَة. وكانَ النَّاسُ البُسَطاءُ يَتَنَاقَلُونَ في سَهَراتِهِم حِكَايَاتٍ غَرِيبَة: غُولٌ يَمْشِي بِقَدَمَيْ حِمارٍ ونِصْفُهُ الأَعْلَى بَشَرِي، يَخْتَلِفُونَ إِنْ كانَ رَجُلًا أمِ امْرَأة.
ما زِلْتُ أذْكُرُ أحادِيثَ عَجَائِزِ الطُّفُولَة، وكيفَ كانوا يَزْرَعُونَ الرُّعْبَ في قُلُوبِنا. ولا زِلْتُ، مِنْ أَثَرِ ذلِكَ، إذا الْتَقَيْتُ أَحَدَهُم في سَاعَةٍ مُتَأخِّرَةٍ مِنَ اللَّيْل، أنظُرُ إلى قَدَمَيهِ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُونَا قَدَمَيْ حِمارٍ شَعَرْتُ بالأَمَان. أمَّا إذا لَاحَقَني قِطٌّ أَسْوَد، فَتِلْكَ حِكايَةٌ لا أُحِبُّ سَرْدَها.
هَلْ ضَحِكْتَ مِنْ أَوهَامي؟ لَمْ يُخْبِرْنَا العَجائِزُ أنَّ السَّائِرِينَ الحَقيقيِّينَ في اللَّيْلِ هُمُ الغُرَباءُ والفُقَراءُ والحَزانى، الذينَ يُخْفُونَ في الظَّلامِ مآسِيَهُم.
ثالثاً: الظَّلامُ بينَ الأَدَبِ وعِلْمِ النَّفْس
في المُقَابِل، لَجَمَ كَثيرُونَ خَيالاتِهِم اللَّيْلِيَّة، فَقَادَتْهُم إلى عَوالِمَ سَرَدُوها في كُتُب: مِنْ «الجَرِيمَةِ والعِقَاب» إلى دْرَاكُولا ومُصاصِي الدِّمَاء، والزُّومْبيَات التي أثَارَتْ خَيالَ الإنسانِ المُعَاصِر.
وَمِنْ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ أَيْضاً حَالَةُ السَّيْرِ أثناءَ النَّوْم، وهي أَكْثَرُ شيوعًا لَدَى الأطْفَالِ ثُمَّ تَخِفُّ تَدْرِيجِياً مَعَ البُلُوغ. ومع ذلك، تَبَنَّتْهَا المَخِيلَةُ الشَّعْبِيَّةُ وأَذْكَتْ نَارَها وأَشْبَعَتْهَا قِصَصاً ومُغَامَرات، عَنْ أشخاصٍ يَمْشُونَ على الحَوَافِ العاليةِ ويُعَايِشُونَ أحْلامَهُم ومَخاوِفَهُم.
لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ تُحاصِرُهُمُ المَخاوِفُ وَيَنْهَشُهُمُ القَلَقُ، فَتَدْفَعُهُمُ الكآبَةُ إِلى هَجْرِ مَنْ حَوْلَهُمْ وَالاحْتِماءِ بِعَتْمَةِ اللَّيْلِ وَوَحْشَتِهِ. هُناكَ، فِي تِلْكَ الزَّاوِيَةِ المُعْتِمَةِ، يَلِيدُ ما يُعْرَفُ بِالنِّيكْتُوفِيلْيا (Nyctophilia)؛ مَيْلٌ خَفِيٌّ لِلعَتَمَةِ وَسُكُونِهَا. يَجِدُ صاحِبُهُ فِي لَيْلٍ عَمِيقٍ، وَفِي مِزاجٍ هادِئٍ يَنْسَابُ كَنَسْمَةٍ بارِدَةٍ، ما يُخَفِّفُ وَطْأَةَ أَفْكارِهِ الصَّاخِبَةِ، وَكَأَنَّ الظَّلامَ يَمْتَصُّ عَنْهُ ثِقْلَ العالَمِ. يَتَنَفَّسُ بِعُمْقٍ بَعِيدًا عَنْ ضَجِيجِ النَّهارِ وَرُتابَتِهِ، وَيَمْنَحُ نَفْسَهُ مَساحَةً لا يَجِدُها فِي الضَّوْءِ. فَبِالنِّسْبَةِ لَهُ لَيْسَ اللَّيْلُ مُجَرَّدَ غِيابٍ لِلشَّمْسِ، بَلْ مَلاذٌ حَمِيمٌ وَرَفِيقٌ صامِتٌ، يُقَدِّمُ لَهُ سَكِينَةً نادِرَةً وَشُعُورًا خَفِيفًا بِالحُرِّيَّةِ، كَأَنَّهُ يُعيدُ تَرْمِيمَ ما كَسَرَتْهُ الحَياةُ فِي وَضَحِ النَّهارِ.
وَرُبَّما يَتَساءَلُ بَعْضُنا: هَلْ يَجْعَلُنا حُبُّنَا لِظُلْمَةِ اللَّيْلِ أَقْرَبَ إِلى الكائِناتِ اللَّيْلِيَّةِ nocturnal animals؟ تِلْكَ المَخْلوقاتِ الَّتي فُطِرَتْ عَلَى اليَقَظَةِ فِي العَتَمَةِ، وَتَتَّصِفُ بِحِدَّةِ السَّمْعِ، وَعُمقِ الإِدْراكِ، وَعُيُونٍ اتَّسَعَت لِتَقْتَنِصَ خَفَقَاتِ الضَّوْءِ، وَأَرْواحٍ لا تَسْتَقِرُّ إِلّا إِذَا نَزَلَ السَّوادُ كَسِتارَةٍ تُعيدُ إِلى الكَوْنِ نَبْضَهُ الهَادِئَ.
وَأَظُنُّ أَنَّنِي مِنْ أَصْدِقَاءِ اللَّيْلِ وَمُخْتَبِئِيهِ.
رابعاً: اسْتِدْعاءُ الحَوَاسِّ في الظَّلام (التَّجَارِبُ الحِسِّيَّة)
وفي المُقَابِل، شَكَّلَ هذا الانجِذَابُ للظَّلامِ تَحَدِّياً لِمُصَمِّمِي التَّجَارِبِ الحِسِّيَّة. وهذا ما أَطْلَقَ العِنانَ لِخَيالِ بَعْضِ العَامِلِينَ في مَجَالِ السِّيَاحَة، فَقَدَّمَتْ فَنادِقُ عُرِفَتْ بِمُسْتَوىً رَاقٍ مِنَ الرَّفاهِيَّة، ما أسْمَتْهُ “Dining in the Dark”. تُقامُ فيهِ حَفَلاتُ العَشَاءِ في ظَلامٍ تَام، يَخْتَفِي فيهِ البَصَرُ لِيُوقِظَ الحَوَاسَّ البِدائِيَّةَ التي خَمَدَتْ تَحْتَ سَطْوَةِ الضَّوْء. عَلَى الضَّيْفِ أنْ يَعْتَمِدَ على الشَّمِّ والذَّوْقِ واللَّمْسِ لِيَتَعَرَّفَ إلى طَعَامِهِ: أَهُوَ دَجَاجٌ أَمْ سَمَك؟ مَحَارٌ أَمْ شَيْءٌ آخَر؟
إنَّها مُتْعَةٌ غَامِرَة؛ فَبَدَلَ تَبَادُلِ النَّظَراتِ والحُكْمِ عَلَى هَيْئَةِ الطَّعَامِ أوِ الآخَرِين، يَعُودُ المُجْتَمِعُونَ إلى أَحَاسِيسِ الصَّيَّادِ الأَوَّلِ وسَاكِنِ الكَهْفِ المُظْلِم. يُصْبِحُ الصَّوْتُ واللَّمْسُ والرَّائِحَةُ هِيَ اللُّغَةَ المُشْتَرَكَة. تَتَجَلَّى المُتْعَةُ في الانْكِشَافِ والتَّجَرُّد: في لُقْمَةٍ تُفَاجِئُ الشِّفَاه، في الأَيْدِي التي تَبْحَثُ عَنْ كَأْس، في الضَّحَكَاتِ العَفْوِيَّةِ النَّاتِجَةِ عَنِ اللَّمْسِ الخَاطِئ—لَحَظَاتٌ تَكْسِرُ كُلَّ حَوَاجِزِ البُرُوتُوكُولِ الاجْتِمَاعِيِّ والبَصَرِي.
خَاتِمَة: عَودَةٌ إلى المَقْعَد
ولا يَقِفُ الأَمْرُ عِنْدَ هَذا الحَدِّ، فَهُنَاكَ حَفَلاتُ الرَّقْصِ في الظَّلام، حَيْثُ تَتَوَارَى المُوسِيقَى خَلْفَ هَمْسٍ خَفِيّ، أوْ يُتْرَكُ لِخَيَالِكَ ومَشَاعِرِكَ أَنْ يُشْعِلَا النَّارَ الأُولَى. عِنْدَهَا يَنْهَضُ الجَسَدُ كَطَيْفٍ مِنْ نُور، يَرْقُصُ ويَتَمَايَلُ بِإِيقَاعٍ لا يَسْمَعُهُ إلَّا العَاشِقُون، مُؤَدِّياً طُقُوسَ العِشْقِ القَدِيمَة، مُمْتَزِجاً بِالحَبِيبِ امْتِزَاجاً يُحَرِّرُ الرُّوحَ مِنْ مَأْلُوفِها، ويَقُودُهَا إلى عَوَالِمَ لا تُرَى إلّا بِالقَلْب؛ كَمَنْ يَسْبَحُ في البَحْرِ ولا يَسْتُرُهُ إلّا المَوْجُ واضْطِرَابُ مَشَاعِرِه.
وَفِي النِّهَايَة، تَعُودُ العَتَمَةُ إلى مَكانِهَا الأَوَّل؛ تَمْتَدُّ يَدُ المَوْج، ويَزْحَفُ المَدُّ على صَدْرِهِ حَتَّى يَصِلَ قَوَائِمَ المَقْعَدِ المَهْجُورِ عَلَى الشَّاطِئ، يَرُوحُ ويَجِيءُ بِصَخَبٍ لَذِيذ. تَتَّسِعُ السَّمَاءُ فَوْقَهُ وتَلْمَعُ النُّجُوم، تَبْتَسِمُ الشِّعْرَى، ويَهْبِطُ الطَّائِرُ الوَحِيدُ عَلَى المَقْعَد. يَنْتَشِرُ السُّكُونُ في الكَوْن؛ فَالْبَحْرُ لا يَذْهَبُ لِلنَّوْم.