
العقبة بين الطموح الاستراتيجي ومتطلبات السلامة* *رؤية تنموية شاملة تستدعي تأسيس هيئة مستقلة للسلامة والصحة المهنية*
الشعب نيوز:-
بقلم : المستشار الإعلامي عمر الصمادي
تقف منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة وشركة تطوير العقبة أمام مرحلة مفصلية تتقاطع فيها الطموحات التنموية الكبرى مع الحاجة الملحّة لإعادة بناء منظومة الأمان والسلامة العامة على أسس أكثر صرامة واحترافية، وذلك بعد سلسلة من الحوادث المؤسفة التي شهدتها بعض المواقع الحيوية، من مناولة المواد الخطرة إلى حوادث التسرب والتخزين وسلاسل النقل.
هذه الوقائع لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل قرعت جرس الإنذار لكشف هشاشة بعض جوانب المنظومة الحالية، وفتح الباب واسعا أمام سؤال جوهري ( كيف يمكن للعقبة، وهي أكبر المشاريع الوطنية الاستراتيجية، وأهم مناطق الاستثمار في المملكة، أن تمضي بثقة نحو المستقبل دون بنية مؤسسية صلبة تمسك بملف السلامة من جذوره؟
رغم وجود نماذج ناجحة داخل بعض القطاعات في العقبة ( قطاعات تمكنت من إدارة ملف السلامة باحترافية جعلت نسبة الحوادث تكاد تلامس الصفر) واشير هنا مثلا الى ميناء الحاويات وشركة الخدمات البحرية، إلا أن المشهد العام لا يزال بحاجة إلى مقاربة جديدة، أكثر شمولا، وأكثر قدرة على استيعاب حجم المخاطر والتعقيدات التشغيلية في منطقة اقتصادية تتوسع بوتيرة غير مسبوقة.
*تجربة الإمارات… دليل واضح على أن السلامة ليست كلفة بل استثمار وضرورة*
إن النظر إلى التجربة الإماراتية في إدارة السلامة المهنية وسلامة المنشآت وحماية الاستثمارات يظهر نموذجا عربياً وعالميا ناجحا يُحتذى به، فقد بنت الإمارات الشقيقة منظومة متكاملة تمتد من الموانئ والمطارات إلى المناطق الصناعية ومنشآت النفط والغاز والمشاريع السياحية العملاقة والفعاليات الاقتصادية الكبرى، حيث اصبح معدل الحوادث فيها من الأدنى عالميا، ما عزز ثقة المستثمرين ورفع من تنافسية البلد الدولية.
*العقبة… إعادة تموضع تاريخية تستوجب حماية مسارها الاستثماري*
وعودة الى العقبة … بما تمتلكه من مقومات كبيرة … قادرة على الاستفادة مباشرة من هذه التجربة من خلال تبني عناصرها التنظيمية والهندسية والتشريعية لتأسيس نموذج أردني متكامل يليق بمكانتها الإقليمية.
لا شك أن سلطة العقبة وشركة التطوير تعملان اليوم على تنفيذ واحدة من أكبر الخطط الاستراتيجية منذ تأسيس المنطقة الخاصة قبل نحو 25 عاماً، خطة تهدف إلى إعادة تموضع العقبة كعاصمة اقتصادية بحرية إقليمية ذات دور محوري في سلاسل النقل والتجارة والطاقة والسياحة والاستثمار.
هذا التحول ليس مجرد تحديث للبنية التحتية أو إطلاق مشاريع جديدة، بل مشروع وطني شامل يعيد صياغة دور العقبة في الاقتصاد الكلي للمملكة ويضعها على خارطة أوسع تنافسيةً وأكثر تأثيراً.
ويأتي هذا المسار متناغما مع التوجيهات الملكية السامية، وملبيا لمتابعة سمو ولي العهد الحثيثة لمسارات التطوير، لتأكيد أن العقبة ليست مجرد منطقة اقتصادية، بل منصة استراتيجية تتجاوز حدود الجغرافيا، وتحتاج إلى أعلى درجات الأمان لضمان تدفق الاستثمارات وحماية الأرواح والبنية الاقتصادية وبالتالي التوقعات لنتائج تلك الاحداث المؤسفة لا يجوز ان تبقى محصورة في النمط الاجرائي والمعالجات لحوادث مأساوية سابقة وبذات الطريقة التي لم تجدي نفعا على الاطلاق.
*الاستثمار يحتاج بيئة فعلية آمنة لا ورقية ساكنة*
العقبة اليوم تحتاج، وبشكل عاجل، إلى كل ما يعزز تنافسيتها، وفي مقدمة ذلك تأسيس منظومة سلامة مهنية لا تخطيء، ولا تتهاون، ولا تترك فجوات قد تبتلع ثمار الجهود والتضحيات، فلا يمكن الحديث عن استثمار مستدام أو نمو اقتصادي طويل الأمد دون سلامة حقيقية تسبق البناء، وتواكب التشغيل، وتحمي المستقبل.
*هيئة مستقلة للسلامة والصحة المهنية… ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل*
وبناءً على ما سبق، فإن تأسيس هيئة مستقلة للسلامة والصحة المهنية في العقبة لم يعد ترفاً تنظيمياً أو خياراً يمكن تأجيله، لابل أصبح ضرورة وطنية حتمية تفرضها، سلامة الإنسان أولاً، ومصلحة المدينة واقتصاد المملكة، ومن اجل حماية الاستثمارات الضخمة القائمة والمستقبلية، لمنع تكرار الحوادث التي أزهقت أرواحاً بريئة وتركت آثاراً اقتصادية ومعنوية قاسية، ولكي نضمن بيئة آمنة تدعم رؤية العقبة الاستراتيجية الكبرى، وبما يشكل مظلّة مؤسسية قوية تمتلك الولاية والصلاحية والخبرة لإدارة سلامة العقبة بمختلف قطاعاتها، وتضعها على مسار عالمي يليق بطموحها وإمكاناتها.
العقبة اليوم أمام فرصة تاريخية، فإما أن تُحصّن نهضتها بالسلامة… أو تدفع ثمن غيابها.